للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كَمَنْ أَرَادَ سُلُوكَ طَرِيقٍ فَأُخْبِرَ بِأَنَّ فِيهِ سَبُعًا، فَإِنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي أَنْ يَتَوَقَّفَ وَيَبْحَثَ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَسْلُكُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ وُجُوبُ النَّظَرِ فِي مُعْجِزَةِ الرُّسُلِ وَسَائِرِ مَا يُؤَدِّي إِلَى ثُبُوتِ الشَّرَائِعِ. فَلِذَلِكَ تَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِمَا ذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» إِذْ قَالَ: «فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ قَبْلَ الرُّسُلِ وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي النَّظَرُ فِيهَا مُوَصِّلٌ إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَالرُّسُلُ فِي أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَتَوَصَّلُوا إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِالنَّظَرِ فِي تِلْكَ الْأَدِلَّةِ، أَيْ قَبْلَ الرِّسَالَةِ. قُلْتُ: الرُّسُلُ مُنَبِّهُونَ عَنِ الْغَفْلَةِ وَبَاعِثُونَ عَلَى النَّظَرِ مَعَ تَبْلِيغِ مَا حَمَلُوهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَتَعْلِيمِ الشَّرَائِعِ فَكَانَ إِرْسَالُهُمْ إِزَاحَةً لِلْعِلَّةِ وَتَتْمِيمًا لِإِلْزَامِ الْحُجَّةِ» . يَعْنِي أَنَّ بِعْثَةَ الرُّسُلِ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ لَا عَدْلٌ، وَلَوْ لَمْ يَبْعَثْهُمْ لَكَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى الْقَبَائِحِ عَدْلًا، فَبِعْثَةُ الرُّسُلِ إِتْمَامٌ لِلْحُجَّةِ فِي أَصْلِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَإِتْمَامٌ لِلْحُجَّةِ فِي زِيَادَةِ التَّزْكِيَةِ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: رَبَّنَا لِمَ لَمْ تُرْشِدْنَا إِلَى مَا يَرْفَعُ دَرَجَاتِنَا فِي مَرَاتِبِ الصِّدِّيقِينَ وَقَصَرْتَنَا عَلَى مُجَرَّدِ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، حِينَ اهْتَدَيْنَا لِأَصْلِ التَّوْحِيدِ بِعُقُولِنَا.

وَقَالَ الْمَاتِرِيدِيُّ بِمُوَافَقَةِ الْجُمْهُورِ فِيمَا عَدَا الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ إِرَادَةِ إِفْحَامِ الرُّسُلِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ رَآهُ مَبْنَى أُصُولِ الدِّينِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ فِي «التَّوْضِيحِ» «أَيْ يَكُونُ الْفِعْلُ صِفَةً يُحْمَدُ فَاعِلُ الْفِعْلِ وَيُثَابُ لِأَجْلِهَا أَوْ يُذَمُّ وَيُعَاقَبُ لِأَجْلِهَا لِأَنَّ وُجُوبَ تَصْدِيقِ النَّبِيءِ إِنْ تَوَقَّفَ عَلَى الشَّرْعِ يُلْزِمُ الدَّوْرَ» وَصَرَّحَ أَيْضًا بِأَنَّهَا تُعَرِّفُ بِالشَّرْعِ أَيْضًا.

وَقَدْ ضَايَقَ الْمُعْتَزِلَةُ الْأَشَاعِرَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِ وُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ فَقَالُوا: لَوْ لَمْ تَجِبِ الْمَعْرِفَةُ إِلَّا بِالشَّرْعِ لَلَزِمَ إِفْحَامُ الرُّسُلِ، فَلَمْ تَكُنْ لِلْبَعْثَةِ فَائِدَةٌ. وَوَجْهُ اللُّزُومِ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا قَالَ لِأَحَدٍ: انْظُرْ فِي مُعْجِزَتِي حَتَّى يَظْهَرَ صِدْقِي لَدَيْكَ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنْظُرُ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ، لِأَنَّ تَرْكَ غَيْرَ الْوَاجِبِ جَائِزٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيَّ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدِي الْوُجُوبُ بِالشَّرْعِ، وَلَا يَثْبُتُ الشَّرْعُ مَا دُمْتُ لَمْ أَنْظُرْ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّرْعِ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ.

وَظَاهَرَهُمُ الْمَاتِرِيدِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ.