للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مِنْ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَتَنْزِيهِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، يَتَفَرَّعُ أَنْ آمُرَكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَأُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ مَعَ كَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ، أَيِ النَّصَارَى، لِأَنَّهُمْ لَمَّا وَصَفُوا اللَّهَ بِمَا لَا يَلِيقُ فَقَدْ أَفْسَدُوا الْإِيمَانَ، وَلِيَكُونَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَمْهِيدًا لِلْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدِي. وَأُرِيدَ بِالرُّسُلِ جَمِيعُهُمْ، أَيْ لَا تَكْفُرُوا بِوَاحِدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِرَاسِ عَنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمُونَ أَنْ يُعْرِضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِرِسَالَةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُ.

وَقَوْلُهُ: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أَيْ لَا تَنْطِقُوا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ شِعَارًا لِلنَّصَارَى فِي دِينِهِمْ كَكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ عَوَائِدِهِمُ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّثْلِيثِ بِالْأَصَابِعِ الثَّلَاثَةِ: الْإِبْهَامِ وَالْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ النُّطْقِ بِالْمُشْتَهِرِ

مِنْ مَدْلُولِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَعَنِ الِاعْتِقَادِ. لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ الصِّدْقُ فَلَا يَنْطِقُ أَحَدٌ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادٍ، فَالنَّهْيُ هُنَا كِنَايَةٌ بِإِرَادَةِ الْمَعْنَى وَلَازِمِهِ. وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقُولُوا خُصُوصُ النَّصَارَى.

وثَلاثَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَانَ حَذْفُهُ لِيَصْلُحَ لِكُلِّ مَا يَصْلُحُ تَقْدِيرُهُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ مِنَ التَّثْلِيثِ، فَإِنَّ النَّصَارَى اضْطَرَبُوا فِي حَقِيقَةِ تَثْلِيثِ الْإِلَهِ كَمَا سَيَأْتِي، فَيُقَدَّرُ الْمُبْتَدَأُ الْمَحْذُوفُ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَرْدُودُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ التَّثْلِيثِ مِمَّا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِلَفْظِ ثَلاثَةٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِلَهِ، وَهِيَ عِدَّةُ أَسْمَاءٍ. فَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [الْمَائِدَة: ٧٣] . وَفِي آيَةِ آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: ١١٦] ، أَيْ إِلَهَيْنِ مَعَ اللَّهِ، كَمَا سَيَأْتِي، فَالْمَجْمُوعُ ثَلَاثَةٌ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَهٌ وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَجْمُوعَ الثَّلَاثَةِ إِلَهٌ وَاحِدٌ أَوِ اتَّحَدَتِ الثَّلَاثَة فَصَارَ إِلَه وَاحِد. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : (ثَلَاثَةٌ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فَإِنْ صَحَّتِ الْحِكَايَةُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، فَتَقْدِيرُهُ اللَّهُ ثَلَاثَةٌ وَإِلَّا فَتَقْدِيرُهُ الْآلِهَةُ ثَلَاثَةٌ اهـ.

وَالتَّثْلِيثُ أَصْلٌ فِي عَقِيدَةِ النَّصَارَى كُلِّهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي كَيْفِيَّتِهِ. وَنَشَأَ