للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مِنِ اعْتِقَادِ قُدَمَاءِ الْإِلَهِيِّينَ مِنْ نَصَارَى الْيُونَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (ثَالُوثٌ) ، أَيْ أَنَّهُ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا الْجَوْهَرُ مَجْمُوعُ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ، وَاحِدُهَا أُقْنُومٌ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونُ الْقَافِ-. قَالَ فِي «الْقَامُوسِ» : هُوَ كَلِمَةٌ رُومِيَّةٌ، وَفَسَّرَهُ الْقَامُوسُ بِالْأَصْلِ، وفسّره التفتازانيّ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» بِالصِّفَةِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ مُعَرَّبُ كَلِمَةِ (قَنُومَ بِقَافٍ مُعَقَّدٍ عَجَمِيٍّ) وَهُوَ الِاسْمُ، أَيِ (الْكَلِمَةُ) . وَعَبَّرُوا عَنْ مَجْمُوعِ الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ بِعِبَارَةٍ (آبَا- ابْنَا- رُوحَا قُدُسَا) وَهَذِهِ الْأَقَانِيمُ يَتَفَرَّعُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ: فَالْأُقْنُومُ الْأَوَّلُ أُقْنُومُ الذَّاتِ أَوِ- الْوُجُودِ الْقَدِيمِ وَهُوَ الْأَبُ وَهُوَ أَصْلُ الْمَوْجُودَاتِ.

وَالْأُقْنُومُ الثَّانِي أُقْنُومُ الْعِلْمِ، وَهُوَ الِابْنُ، وَهُوَ دُونُ الْأُقْنُومِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهُ كَانَ تَدْبِيرُ جَمِيعِ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ.

وَالْأُقْنُومُ الثَّالِثُ أُقْنُومُ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَهُوَ صِفَةُ الْحَيَاةِ، وَهِيَ دُونُ أُقْنُومِ الْعِلْمِ وَمِنْهَا كَانَ إِيجَادُ عَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ.

وَقَدْ أَهْمَلُوا ذِكْرَ صِفَاتٍ تَقْتَضِيهَا الْإِلَهِيَّةُ، مِثْلَ الْقِدَمِ وَالْبَقَاءِ، وَتَرَكُوا صِفَةَ الْكَلَامِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَتَأَوَّلُوا مَا يَقَعُ فِي الْإِنْجِيلِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ فَسَمُّوا أُقْنُومَ

الذَّاتِ بِالْأَبِ، وَأُقْنُومَ الْعِلْمِ بِالِابْنِ، وَأُقْنُومَ الْحَيَاةِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ، لِأَنَّ الْإِنْجِيلَ أَطْلَقَ اسْمَ الْأَبِ عَلَى اللَّهِ، وَأَطْلَقَ اسْمَ الِابْنِ عَلَى الْمَسِيحِ رَسُولِهِ، وَأَطْلَقَ الرُّوحَ الْقُدُسَ عَلَى مَا بِهِ كُوِّنَ الْمَسِيحُ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ، عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُنَبِّهُوا عَلَى أَنَّ أُقْنُومَ الْوُجُودِ هُوَ مُفِيضُ الْأُقْنُومَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَرَامُوا أَنْ يَدُلُّوا عَلَى عَدَمِ تَأَخُّرِ بَعْضِ الصِّفَاتِ عَنْ بَعْضٍ فَعَبَّرُوا بِالْأَبِ وَالِابْنِ، (كَمَا عَبَّرَ الْفَلَاسِفَةُ الْيُونَانُ بِالتَّوَلُّدِ) . وَسَمُّوا أُقْنُومَ الْعِلْمِ بِالْكَلِمَةِ لِأَنَّ مِنْ عِبَارَاتِ الْإِنْجِيلِ إِطْلَاقَ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمَسِيحِ، فَأَرَادُوا أَنَّ الْمَسِيحَ مَظْهَرُ عِلْمِ اللَّهِ، أَيْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَيُبَلِّغُهُ، وَهُوَ مَعْنَى الرِّسَالَةِ إِذْ كَانَ الْعِلْمُ يَوْمَ تَدْوِينِ الْأَنَاجِيلِ مُكَلَّلًا بِالْأَلْفَاظِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ لِلْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ الرُّومِيَّةِ، فَلَمَّا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمُ الْمَعَانِي أَخَذُوا بِالظَّوَاهِرِ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَرْبَابَ ثَلَاثَةٌ وَهَذَا أَصْلُ النَّصْرَانِيَّةِ، وَقَارَبُوا عَقِيدَةَ الشِّرْكِ.