للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثُمَّ جَرَّهُمُ الْغُلُوُّ فِي تَقْدِيسِ الْمَسِيحِ فَتَوَهَّمُوا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ، فَقَالُوا: إِنَّ الْمَسِيحَ صَارَ نَاسُوتُهُ لَاهُوتًا، بِاتِّحَادِ أُقْنُومِ الْعِلْمِ بِهِ، فَالْمَسِيحُ جَوْهَرَانِ وَأُقْنُومٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ نَشَأَتْ فِيهِمْ عَقِيدَةُ الْحُلُولِ، أَيْ حُلُولِ اللَّهِ فِي الْمَسِيحِ بِعِبَارَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، ثُمَّ اعْتَقَدُوا اتِّحَادَ اللَّهِ بِالْمَسِيحِ، فَقَالُوا: اللَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ. هَذَا أَصْلُ التَّثْلِيثِ عِنْدَ النَّصَارَى، وَعَنْهُ تَفَرَّعَتْ مَذَاهِبُ ثَلَاثَةٌ أَشَارَ إِلَى جَمِيعِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ- وَقَوْلُهُ- لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [الْمَائِدَة: ٧٢] وَقَوْلُهُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: ١١٦] وَكَانُوا يَقُولُونَ: فِي عِيسَى لَاهُوتِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَنَاسُوتِيَّةٌ- أَيْ إِنْسَانِيَّةٌ- مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ.

وَظَهَرَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ رَاهِبٌ اسْمه (آريوس) قَالُوا بِالتَّوْحِيدِ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، وَكَانَ فِي زَمَنِ (قسطنطينوس سُلْطَان الرّون بَانِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ) . فَلَمَّا تَدَيَّنَ قُسْطَنْطِينُوسُ الْمَذْكُورُ بِالنَّصْرَانِيَّةِ سَنَةَ ٣٢٧ تَبِعَ مَقَالَةَ (آرِيُوسَ) ، ثُمَّ رَأَى مُخَالَفَةَ مُعْظَمِ الرُّهْبَانِ لَهُ فَأَرَادَ أَنْ يُوَحِّدَ كَلِمَتَهُمْ، فَجَمَعَ مَجْمَعًا مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ مِنَ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ، وَكَانَ فِي هَذَا الْمَجْمَعِ نَحْوُ أَلْفَيْ عَالٍمٍ مِنَ النَّصَارَى فَوَجَدَهُمْ مُخْتَلِفِينَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَوَجَدَ أَكْثَرَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ عَالِمًا فَأَخَذَ قَوْلَهُمْ وَجَعَلَهُ أَصْلَ الْمَسِيحِيَّةِ وَنَصَرَهُ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ تُلَقَّبُ (الْمَلْكَانِيَّةُ) نِسْبَةً لِلْمَلِكِ.

وَاتَّفَقَ قَوْلُهُمْ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ اتَّحَدَتْ بِجَسَدِ عِيسَى، وَتَقَمَّصَتْ فِي نَاسُوتِهِ، أَيْ إِنْسَانِيَّتِهِ، وَمَازَجَتْهُ امْتِزَاجَ الْخَمْرِ بِالْمَاءِ، فَصَارَتِ الْكَلِمَةُ ذَاتًا فِي بَطْنِ مَرْيَمَ، وَصَارَتْ تِلْكَ الذَّاتُ ابْنًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْإِلَهُ مَجْمُوعُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:

الْأَوَّلُ الْأَبُ ذُو الْوُجُودِ، وَالثَّانِي الِابْنُ ذُو الْكَلِمَةِ، أَيِ الْعِلْمِ، وَالثَّالِثُ رُوحُ الْقُدُسِ.