وَأَمَّا مَا حَكَى اللَّهُ عَنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي قَوْلِهِ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ [مَرْيَم: ٣٠] فَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَقَامِ خِطَابِ مَنِ ادَّعَوْا لَهُ الْإِلَهِيَّةَ.
وَعَطْفُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمَسِيحِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِمَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ حَتَّى يَتَعَرَّضَ لِرَدِّ ذَلِكَ، إِدْمَاجٌ لِقَصْدِ اسْتِقْصَاءِ كُلِّ مَنِ ادُّعِيَتْ لَهُ بُنُوَّةُ اللَّهِ، لِيَشْمَلَهُ الْخَبَرُ بِنَفْيِ اسْتِنْكَافِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَهُ قَوْلُهُ: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاء: ١٧١] ، وَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ نِسَاءِ الْجِنِّ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا قَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [النِّسَاء: ١٧١] ، وَمِنْ أَفْضَلِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ الْمَلَائِكَةُ، فَذُكِرُوا هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ. وَإِنْ جعلت قَوْله: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
اسْتِدْلَالًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النِّسَاء: ١٧١] كَانَ عَطْفُ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
مُحْتَمِلًا لِلتَّتْمِيمِ كَقَوْلِهِ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الْفَاتِحَة: ٣] فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمَسِيحِ، وَلَا عَلَى الْعَكْسِ وَمُحْتَمِلًا لِلتَّرَقِّي إِلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى بِعَكْسِ الْحُكْمِ فِي أَوْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِلَى هَذَا الْأَخِيرِ مَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [الْبَقَرَة: ١٢٠] وَجَعَلَ، الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسِيحِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِتَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَزَعَمَ أَنَّ عِلْمَ الْمَعَانِي لَا يَقْتَضِي غَيْرَ ذَلِكَ، وَهُوَ تَضْيِيقٌ لِوَاسِعٍ، فَإِنَّ الْكَلَامَ مُحْتَمِلٌ لِوُجُوهٍ، كَمَا عَلِمْتَ، فَلَا يَنْهَضُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ مُطْلَقًا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَتَفْضِيلَ
الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْبَاقِلَّانِيِّ وَالْحَلِيمِيِّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَالَ قَوْمٌ بِالتَّفْصِيلِ فِي التَّفْضِيلِ، وَنُسِبَ إِلَى بَعْضِ الْمَاتِرِيدِيَّةِ، وَلَمْ يُضْبَطْ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَا طَائِلَ وَرَاءَ الْخَوْضِ فِيهَا، وَقَدْ نَهَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَوْضِ فِي تُفَاضُلِ الْأَنْبِيَاءِ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْخَوْضِ فِي التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَبَيْنَ مَخْلُوقَاتِ عَالَمٍ آخَرَ لَا صِلَةَ لَنَا بِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute