وَ (الْمُقَرَّبُونَ) ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا كَاشِفًا، وَأَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا، فَيُرَادُ بِهِمُ الْمُلَقَّبُونَ (بِالْكَرُوبِيِّينَ) وَهُمْ سَادَةُ الْمَلَائِكَةِ: جِبْرِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَعِزْرَائِيلُ. وَوَصْفُهُمْ بِالْكَرُوبِيِّينَ وَصْفٌ قَدِيمٌ وَقَعَ فِي بَيْتِ نَسَبٍ إِلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنْ كَرَبَ مُرَادِفِ قَرُبَ، وَزِيدَ فِيهِ صِيغَتَا مُبَالَغَةٍ، وَهِيَ زِنَةُ فَعُولٍ وَيَاءُ النَّسَبِ. وَالَّذِي أَظُنُّ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ نُقِلَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ: لِوُقُوعِ هَذَا اللَّفْظِ فِي التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ، وَأَنَّهُ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ بِمَعْنَى الْقُرْبِ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْهُ الْقُرْآنُ وَجَاءَ بِمُرَادِفِهِ الفصيح فَقَالَ: ْمُقَرَّبُونَ
، وَعَلَيْهِ فَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَثْبُتُ لَهُمْ عَدَمُ الِاسْتِنْكَافِ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ بِدَلَالَةِ الْأَحْرَى.
وَقَوْلُهُ: مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ
الْآيَةَ تَخَلُّصٌ إِلَى تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ قَوْلُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْله: سَيَحْشُرُهُمْ
عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، بَلْ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ فَسَيَحْشُرُ النَّاسَ إِلَيْهِ جَمِيعًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْصِيلُ الْمُفَرَّعُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الْخَ. وَضَمِيرُ وَلا يَجِدُونَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا، أَيْ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا حِينَ يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ جَمِيعًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا وَيكون مِيعاً
بِمَعْنَى مَجْمُوعِينَ إِلَى غَيْرِهِمْ، مَنْصُوبًا، فَإِنَّ لَفْظَ جَمِيعٍ لَهُ اسْتِعْمَالَاتٌ جَمَّةٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ وَصْفًا بِمَعْنَى الْمُجْتَمَعِ، وَفِي كَلَامِ عُمَرَ لِلْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ: «ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ» أَيْ مُتَّفِقٌ مَجْمُوعٌ، فَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ وَلَيْسَ تَأْكِيدًا. وَذِكْرُ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّفْصِيلِ يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ.
وَالتَّوْفِيَةُ أَصْلُهَا إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا، أَيْ زَائِدًا عَلَى الْمِقْدَارِ الْمَطْلُوبِ، وَلَمَّا كَانَ تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ يَخْفَى لِقِلَّةِ الْمَوَازِينِ عِنْدَهُمْ، وَلِاعْتِمَادِهِمْ عَلَى الْكَيْلِ، جَعَلُوا تَحَقُّقَ الْمُسَاوَاةِ بِمِقْدَارٍ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمُسَاوِي، أُطْلِقَتِ التَّوْفِيَةُ عَلَى إِعْطَاءِ المعادل
وتقابل بالخسان وَبِالْغَبْنِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute