رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صُورَةٍ أُخْرَى مِنْ صُوَرِ الْكَلَالَةِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ هُوَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ مَاشِيَيْنِ فِي بَنِي سَلَمَةَ فَوَجَدَانِي مُغْمًى عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَبَّ عَلَيَّ وَضُوءَهُ فَأَفَقْتُ وَقُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي فَإِنَّمَا يَرِثُنِي كَلَالَةٌ.
فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ الْآيَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَجَهِّزٌ لِحِجَّةِ الْوَدَاعِ فِي قَضِيَّةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
فَضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: يَسْتَفْتُونَكَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ جَمْعٌ، بَلْ أُرِيدَ بِهِ جِنْسُ السَّائِلِينَ، عَلَى نَحْوِ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا» وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ قَدْ تَكَرَّرَ وَكَانَ آخِرُ السَّائِلَيْنِ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَتَأَخَّرَ الْجَوَابُ لِمَنْ سَأَلَ قَبْلَهُ، وَعُجِّلَ الْبَيَانُ لَهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْحَاجَةِ لِأَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ نَفْسَهُ مَيِّتًا مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ وَأَرَادَ أَنْ
يُوصِيَ بِمَالِهِ، فَيَكُونُ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ.
وَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي مَادَّةِ السُّؤَالِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَة، نَحْو: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [الْبَقَرَة: ١٨٩] ، وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ [الْبَقَرَة: ٢١٩] . لِأَنَّ شَأْنَ السُّؤَالِ يَتَكَرَّرُ، فَشَاعَ إِيرَادُهُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَقَدْ يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُ بَعْضِ صِيَغِ الْفِعْلِ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِعِ، وَمِنْهُ غَلَبَةُ اسْتِعْمَالِ الْمُضَارِعِ فِي الدُّعَاءِ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ: كَقَوْلِ عَائِشَةَ «يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ» (تَعْنِي ابْنَ عُمَرَ) . وَقَوْلِهِمْ: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ» . وَمِنْهُ غَلَبَةُ الْمَاضِي مَعَ لَا النافية فِي الدُّعَاءِ إِذَا لَمْ تُكَرَّرْ لَا نَحْوُ «فَلَا رَجَعَ» . عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ قَدْ تَكَرَّرَ فِيهَا السُّؤَالُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ وَبَعْدَهَا. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ مُرَاجِعَتِي إِيَّاهُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهَا حَتَّى طَعَنَ فِي نَحْرِي، وَقَالَ: «يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ» ، وَقَوْلُهُ: فِي الْكَلالَةِ يَتَنَازَعُهُ فِي التَّعَلُّقِ كُلٌّ مِنْ فِعْلِ (يَسْتَفْتُونَكَ) وَفِعْلِ (يُفْتِيكُمْ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute