للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِعُقُودِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا تُحْدِثُوا عَقْدًا فِي الْإِسْلَامِ»

. وَبَقِيَ أَيْضًا مَا تَعَاقَدَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ كَصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرَيْشٍ. وَقَدْ

رُوِيَ أَنَّ فُرَاتَ بْنَ حَيَّانَ الْعِجْلِيَّ سَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: «لَعَلَّكَ تَسْأَلُ عَنْ حِلْفِ لُجَيْمٍ وَتَيْمٍ، قَالَ:

نَعَمْ، قَالَ: لَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً»

. قُلْتُ: وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا عُرِفَ بِهِ الْإِسْلَامُ بَيْنَهُمْ فِي الْوَفَاءِ لِغَيْرِ مَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَتْ خُزَاعَةُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الَّتِي لَمْ تُنَاوِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٧٣] .

أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.

أَشْعَرَ كَلَامُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ بِالتَّوَقُّفِ فِي تَوْجِيهِ اتِّصَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ بِقَوْلِهِ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. فَفِي «تَلْخِيصِ الْكَوَاشِيِّ» ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِالْعُقُودِ مَا بَعْدَ قَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ اه. وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا مَبْدَؤُهُ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ الْآيَاتِ.

وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ تَفْصِيلٌ لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ: أَوْفُوا

بِالْعُقُودِ

فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ مَجْمُوعَ الْكَلَامِ تَفْصِيلٌ لَا خُصُوصُ جُمْلَةِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ فَإِنَّ إِبَاحَةَ الْأَنْعَامِ لَيْسَتْ عَقْدًا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: «إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ» . وَبِاعْتِبَارِ إِبْطَالِ مَا حَرَّمَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ بَاطِلًا مِمَّا شَمَلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ [الْمَائِدَة: ١٠٣] الْآيَاتِ.

وَالْقَوْلُ عِنْدِي أَنَّ جُمْلَةَ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيَرِدُ بَعْدَهَا مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ: كَقَوْلِهِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَقَوْلِهِ: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٢] الَّتِي هِيَ مِنْ عُقُودِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ بَعْضِ الْمُبَاحِ امْتِنَانًا وَتَأْنِيسًا لِلْمُسْلِمِينَ، لِيَتَلَقَّوُا التَّكَالِيفَ بِنُفُوسٍ مُطْمَئِنَّةٍ