فَالْمَعْنَى: إِنْ حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ أَشْيَاءَ فَقَدْ أَبَحْنَا لَكُمْ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَإِنْ أَلْزَمْنَاكُمْ أَشْيَاءَ فَقَدْ جَعَلْنَاكُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ أَشْيَاءَ أَوْفَرَ مِنْهَا، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَا يُرِيدُ مِنْهُمْ إِلَّا صَلَاحَهُمْ وَاسْتِقَامَتَهُمْ. فَجُمْلَةُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِأَنَّهَا تَصْدِيرٌ لِلْكَلَامِ بَعْدَ عُنْوَانِهِ.
وَالْبَهِيمَةُ: الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ مِنْ ذَوِي الْأَرْبَعِ إِنْسِيِّهَا وَوَحْشِيِّهَا، عَدَا السِّبَاعِ، فَتَشْمَلُ بَقْرَ الْوَحْشِ وَالظِّبَاءِ. وَإِضَافَةُ بَهِيمَةٍ إِلَى الْأَنْعَامِ مِنْ إِضَافَةِ الْعَامِّ لِلْخَاصِّ، وَهِيَ بَيَانِيَّةٌ كَقَوْلِهِمْ:
ذُبَابُ النَّحْلِ وَمَدِينَةُ بَغْدَادَ. فَالْمُرَادُ الْأَنْعَامُ خَاصَّةً، لِأَنَّهَا غَالِبُ طَعَامِ النَّاسِ، وَأَمَّا الْوَحْشُ فَدَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، وَهِيَ هُنَا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يُرَادَ مِنَ الْأَنْعَامِ خُصُوصُ الْإِبِلِ لِغَلَبَةِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَنْعَامِ عَلَيْهَا، فَذُكِرَتْ (بَهِيمَةُ) لِشُمُولِ أَصْنَافِ الْأَنْعَامِ الْأَرْبَعَةِ: الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْمَعِزِ.
وَالْإِضَافَةُ الْبَيَانِيَّةُ عَلَى مَعْنَى (مِنْ) الَّتِي لِلْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَج: ٣٠] .
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ مِنْ عُمُومِ الذَّوَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَمَا يُتْلَى هُوَ مَا سَيُفَصَّلُ عِنْدَ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣] ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، الْوَاقِعُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ، وَهُوَ حَالٌ مُقَيِّدٌ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالٍ وَأَمْكِنَةٍ، لِأَنَّ الْحُرُمَ جَمْعُ حَرَامٍ مِثْلُ رَدَاحٍ عَلَى رُدُحٍ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذَا الْوَصْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٩٧] .
وَالْحَرَامُ وَصْفٌ لِمَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَيْ نَوَاهُمَا. وَوَصْفٌ أَيْضًا لِمَنْ كَانَ حَالًّا فِي الْحَرَمِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمُحْرِمِ عَلَى الْحَالِّ بِالْحَرَمِ قَوْلُ الرَّاعِي:
قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا أَيْ حَالًّا بِحَرَمِ الْمَدِينَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute