وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ الْقَذَارَةُ: لِأَنَّهُ يَكْتَسِبُ رَائِحَةً كَرِيهَةً عِنْدَ لِقَائِهِ الْهَوَاءَ، وَلِذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ، وَلَا تَعَرُّضَ فِي الْآيَةِ لِذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ مَا فِي جَسَدِ الْحَيَوَانِ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْمُضِرَّةِ الَّتِي لَا يُحَاطُ بِمَعْرِفَتِهَا، أَوْ لِمَا يُحْدِثُهُ تَعَوُّدُ شُرْبِ الدَّمِ مِنَ الضَّرَاوَةِ الَّتِي تَعُودُ عَلَى الْخُلُقِ الْإِنْسَانِيِّ بِالْفَسَادِ. وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَأْكُلُ الدَّمَ، فَكَانُوا فِي الْمَجَاعَاتِ يَفْصِدُونَ مِنْ إِبِلِهِمْ وَيَخْلِطُونَ الدَّمَ بِالْوَبَرِ وَيَأْكُلُونَهُ، ويسمّونه الْعِلْهِزَ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالْهَاء.- وَكَانُوا يملأون الْمَصِيرَ بِالدَّمِ وَيَشْوُونَهَا وَيَأْكُلُونَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٣] .
وَإِنَّمَا قَالَ: وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَلَمْ يَقُلْ وَالْخِنْزِيرُ كَمَا قَالَ: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ إِلَى آخِرِ الْمَعْطُوفَاتِ. وَلَمْ يَذْكُرْ تَحْرِيمَ الْخِنْزِيرِ فِي جَمِيعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ إِلَّا بِإِضَافَةِ لَفْظِ لَحْمٍ إِلَى الْخِنْزِيرِ. وَلَمْ يَأْتِ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ بِوَجْهٍ يَنْثَلِجُ لَهُ الصَّدْرُ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي
نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٣] . وَيَبْدُو لِي أَنَّ إِضَافَةَ لَفْظِ لَحْمٍ إِلَى الْخِنْزِيرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ أَكَلُ لَحْمِهِ لِأَنَّ اللَّحْمَ إِذَا ذُكِرَ لَهُ حُكْمٌ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ أَكْلُهُ. وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَا عَدَا أَكْلَ لَحْمِهِ مِنْ أَحْوَالِ اسْتِعْمَالِ أَجْزَائِهِ هُوَ فِيهَا كَسَائِرِ الْحَيَوَانِ فِي طَهَارَةِ شَعْرِهِ، إِذَا انْتُزِعَ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ بِالْجَزِّ، وَطَهَارَةِ عِرْقِهِ وَطَهَارَةِ جِلْدِهِ بِالدَّبْغِ، إِذَا اعْتَبَرْنَا الدَّبْغَ مُطَهِّرًا جِلْدَ الْمَيْتَةِ، اعْتِبَارًا بِأَنَّ الدَّبْغَ كَالذَّكَاةِ. وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلُ بِطَهَارَةِ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ بِالدَّبْغِ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ أَخْذًا بِعُمُوم
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ»
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعِلَّةُ تَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ أَنَّ لَحْمَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى جَرَاثِيمَ مُضِرَّةٍ لَا تَقْتُلُهَا حَرَارَةُ النَّارِ عِنْدَ الطَّبْخِ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى دَمِ آكِلِهِ عَاشَتْ فِي الدَّمِ فَأَحْدَثَتْ أَضْرَارًا عَظِيمَةً، مِنْهَا مَرَضُ الدِّيدَانِ الَّتِي فِي الْمَعِدَةِ.
وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ هُوَ مَا سُمِّيَ عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبْحِ اسْمٌ غَيْرُ اللَّهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute