للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَقَالَةِ مِنَ الْكُفْرِ لَا بَيَانَ مَا عَلَيْهِ النَّصَارَى مِنَ الضلال، لأنّ ظلالهم حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ كُفْرًا.

وَحُكِيَ قَوْلُهُمْ بِمَا تُؤَدِّيهِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَهُوَ تَرْكِيبٌ دَقِيقُ الْمَعْنَى لَمْ يُعْطِهِ الْمُفَسِّرُونَ حَقَّهُ مِنْ بَيَانِ انْتِزَاعِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهِ، مِنْ تَرْكِيبِهِ، مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى اتِّحَادِ مُسَمَّى هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ بِطَرِيقِ تَعْرِيفِ كُلٍّ مِنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ بِالْعَلَمِيَّةِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ مَقْصُودًا لِلْإِخْبَارِ بِأَحْدَاثٍ لِذَوَاتٍ، الْمُسَمَّى فِي الِاصْطِلَاحِ: حَمْلُ اشْتِقَاقٍ بَلْ هُوَ حَمْلُ مُوَاطَأَةٍ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي الْمَنْطِقِ:

حَمْلَ (هُوَ هُوَ) ، وَذَلِكَ حِينَ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِ وَيُرَادُ

بَيَانُ أَنَّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، كَقَوْلِكَ حِينَ تَقُولُ: قَالَ زِيَادٌ، فَيَقُولُ سَامِعُكَ: مَنْ هُوَ زِيَادٌ، فَتَقُولُ: زِيَادٌ هُوَ النَّابِغَةُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُكَ: مَيْمُونٌ هُوَ الْأَعْشَى، وَابْنُ أَبِي السِّمْطِ هُوَ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَالْمُرَعَّثُ هُوَ بَشَّارٌ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَمُجَرَّدُ تَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْإِسْنَادِ كَافٍ فِي إِفَادَةِ الِاتِّحَادِ، وَإِقْحَامُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ لَا يَكَادُ يَتَخَلَّفُ قَصْدًا لِتَأْكِيدِ الِاتِّحَادِ، فَلَيْسَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ إِفَادَةُ قَصْرِ أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَلَيْسَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ فِيهِ بِمُفِيدٍ شَيْئًا سِوَى التَّأْكِيدِ. وَكَذَلِكَ وُجُودُ حَرْفِ (إِنَّ) لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ رُوَيْشِدِ بْنِ كَثِيرٍ الطَّائِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:

وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ... قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ

فَلَا يَأْتِي فِي هَذَا مَا لِعُلَمَاءِ الْمَعَانِي مِنَ الْخِلَافِ فِي أَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ هَلْ يُفِيدُ قَصْرَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ أَوِ الْعَكْسَ، وَهُوَ قَلِيلٌ، لِأَنَّ مَقَامَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّيَيْنِ يُسَوِّي الِاحْتِمَالَيْنِ وَيَصْرِفُ عَنْ إِرَادَةِ الْقَصْرِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى إِشَارَةً خَفِيَّةً قَوْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» عَقِبَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ «مَعْنَاهُ بَتُّ الْقَوْلِ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ اللَّهِ هُوَ الْمَسِيحُ لَا غَيْرُ» . وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» مَا عَدَا قَوْلِهِ (لَا غَيْرُ) ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ (لَا غَيْرُ) يُشِيرُ إِلَى اسْتِفَادَةِ مَعْنَى الْقَصْرِ مِنْ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ أَرَادَ أَنَّ مَعْنَى الِانْحِصَارِ لَازِمٌ بِمَعْنَى الِاتِّحَادِ وَلَيْسَ نَاشِئًا عَنْ صِيغَةِ قَصْرٍ.