وَيُفِيدُ قَوْلُهُمْ هَذَا أَنَّهُمْ جَعَلُوا حَقِيقَةَ الْإِلَهِ الْحَقِّ الْمَعْلُومِ مُتَّحِدَةً بِحَقِيقَةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِمَنْزِلَةِ اتِّحَادِ الِاسْمَيْنِ لِلْمُسَمَّى الْوَاحِدِ، وَمُرَادُهُمُ امْتِزَاجُ الْحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي ذَاتِ عِيسَى. وَلَمَّا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ الْإِلَهِيَّةُ مُعَنْوَنَةً عِنْدَ جَمِيعِ الْمُتَدَيِّنِينَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ جَعَلَ الْقَائِلُونَ اسْمَ الْجَلَالَةِ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ، وَاسْمَ عِيسَى الْمُسْنَدَ لِيَدُلُّوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ اتَّحَدَ بِذَاتِ الْمَسِيحِ.
وَحِكَايَةُ الْقَوْلِ عَنْهُمْ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ هَذَا قَالُوهُ صَرَاحَةً عَنِ اعْتِقَادٍ، إِذْ سَرَى لَهُمُ الْقَوْلُ بِاتِّحَادِ اللَّاهُوتِ بِنَاسُوتِ عِيسَى إِلَى حَدِّ أَنِ اعْتَقَدُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اتَّحَدَ بِعِيسَى وَامْتَزَجَ وُجُودُ اللَّهِ بِوُجُودِ عِيسَى. وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي اعْتِقَادِ الْحُلُولِ. وَلِلنَّصَارَى فِي تَصْوِيرِ هَذَا الْحُلُولِ أَوِ الِاتِّحَادِ أَصْلٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، هُوَ مَجْمُوعُ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ (جَمْعُ أُقْنُومٍ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ- وَهُوَ كَلِمَةٌ رُومِيَّةٌ مَعْنَاهَا: الْأَصْلُ، كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُقْنُومُ الذَّاتِ، وَأُقْنُومُ الْعِلْمِ وَأُقْنُومُ الْحَيَاةِ، وَانْقَسَمُوا فِي بَيَانِ اتِّحَادِ هَذِهِ الْأَقَانِيمِ بِذَاتِ عِيسَى إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: مَذْهَبُ الملكانيّة وهم الجاثليقية
(الْكَاثُولِيكُ) ، وَمَذْهَبُ النُّسْطُورِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الْيَعْقُوبِيَّةِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» .
وَتَقَدَّمَ مُفَصَّلًا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧١] . وَهَذَا قَوْلُ الْيَعَاقِبَةِ مِنَ النَّصَارَى، وَهُمْ أَتْبَاعُ يَعْقُوبَ الْبَرْذَعَانِيِّ، وَكَانَ رَاهِبًا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَقَدْ حَدَثَتْ مَقَالَتُهُ هَذِهِ بَعْدَ مَقَالَةِ الْمَلْكَانِيَّةِ، وَيُقَالُ لِلْيَعَاقِبَةِ: أَصْحَابُ الطَّبِيعَةِ الْوَاحِدَةِ، وَعَلَيْهَا دَرَجَ نَصَارَى الْحَبَشَةِ كُلُّهُمْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ.
وَلِقُرْبِ أَصْحَابِهَا الْحَبَشَةِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ تَصَدَّى الْقُرْآنُ لِبَيَانِ رَدِّهَا هُنَا وَفِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ مُعْتَقَدِ النَّصَارَى فِي اتِّحَادِ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ وَفِي اجْتِمَاعِ الْأَقَانِيمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧١] .
وَبَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً الْآيَةَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute