وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَرَى كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ وَالنَّحْوِيِّينَ. وَوَقَعَ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» عَنِ الْفَرَّاءِ مَا حَاصِلُهُ: إِذَا جَاءَتْ (أَنَّ) بَعْدَ الْقَوْلِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ وَكَانَتْ تَفْسِيرًا لِلْقَوْلِ وَلَمْ تَكُنْ حِكَايَةً لَهُ نَصَبْتَهَا (أَيْ فَتَحْتَ هَمْزَتَهَا) ، مِثْلَ قَوْلِكَ: قَدْ قُلْتُ لَكَ كَلَامًا حَسَنًا أَنَّ أَبَاكَ شَرِيفٌ، تَفْتَحُ (أَنَّ) لِأَنَّهَا فَسَّرَتْ «كَلَامًا» ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ، (أَيْ مَفْعُولٌ لِفِعْلِ قُلْتُ) فَمُفَسِّرُهُ مَنْصُوبٌ أَيْضًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِأَنَّ الْبَيَانَ لَهُ إِعْرَابُ الْمُبَيَّنِ. فَالْفَرَّاءُ يُثْبِتُ لِحَرْفِ (أَنَّ) مَعْنَى التَّفْسِيرِ عِلَاوَةً عَلَى مَا يُثْبِتُهُ لَهُ جَمِيعُ النَّحْوِيِّينَ مِنْ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ، فَصَارَ حَرْفُ (أَنَّ) بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ دَالًّا عَلَى مَعْنَى التَّأْكِيدِ بِاطِّرَادٍ وَدَالًّا مَعَهُ عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ تَارَةً وَعَلَى مَعْنَى التَّفْسِيرِ تَارَةً أُخْرَى بِحَسَبَ اخْتِلَافِ الْمَقَامِ. وَلَعَلَّ الْفَرَّاءَ يَنْحُو إِلَى أَنَّ حَرْفَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ مُرَكَّبٌ مِنْ حَرْفَيْنِ هُمَا حَرْفُ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةِ النُّونِ، وَحَرْفُ (أَنْ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ النُّونِ الَّتِي تَكُونُ تَارَةً مَصْدَرِيَّةً وَتَارَةً تَفْسِيرِيَّةً فَفَتْحُ
هَمْزَتِهِ لِاعْتِبَارِ تَرْكِيبِهِ مِنْ (أَنْ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ النُّونِ مَصْدَرِيَّةً أَوْ تَفْسِيرِيَّةً، وَتَشْدِيدُ نُونِهِ لِاعْتِبَارِ تَرْكِيبِهِ مِنْ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةِ النُّونِ، وَأَصْلُهُ وَ (أَنْ إِنْ) فَلَمَّا رُكِّبَا تَدَاخَلَتْ حُرُوفُهُمَا، كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّ أَصْلَ (لَنْ) (لَا أَنْ) .
وَهَذَا بَيَانُ أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ جُرْمٌ فَظِيعٌ، كَفَظَاعَةِ قَتْلِ النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَالْمَقْصُودُ التَّوْطِئَةُ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: ٤٥] الْآيَةَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِمَا كُتِبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَيَانٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ شَرْعٌ سَالِفٌ وَمُرَادٌ لِلَّهِ قَدِيمٌ، لِأَنَّ لِمَعْرِفَةِ تَارِيخِ الشَّرَائِعِ تَبْصِرَةً لِلْمُتَفَقِّهِينَ وَتَطْمِينًا لِنُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ وَإِزَالَةً لِمَا عَسَى أَنْ يَعْتَرِضَ مِنَ الشُّبَهِ فِي أَحْكَامٍ خَفِيَتْ مَصَالِحُهَا، كَمَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَبْدُو لِلْأَنْظَارِ الْقَاصِرَةِ أَنَّهُ مُدَاوَاةٌ بِمِثْلِ الدَّاءِ الْمُتَدَاوَى مِنْهُ حَتَّى دَعَا ذَلِكَ الِاشْتِبَاهُ بَعْضَ الْأُمَمِ إِلَى إِبْطَالِ حُكْمِ الْقِصَاصِ بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُعَاقِبُونَ الْمُذْنِبَ بِذَنْبٍ آخَرَ، وَهِيَ غَفْلَةٌ دَقَّ مَسْلَكُهَا عَنِ انْحِصَارِ الِارْتِدَاعِ عَنِ الْقَتْلِ فِي تَحَقُّقِ الْمُجَازَاةِ بِالْقَتْلِ لِأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute