النُّفُوسَ جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ الْبَقَاءِ وَعَلَى حُبِّ إِرْضَاءِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، فَإِذَا عَلِمَ عِنْدَ الْغَضَبِ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ فَجَزَاؤُهُ الْقَتْلُ ارْتَدَعَ، وَإِذَا طَمِعَ فِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ دُونَ الْقَتْلِ أَقْدَمَ عَلَى إِرْضَاءِ قُوَّتِهِ الْغَضَبِيَّةِ، ثُمَّ عَلَّلَ نَفْسَهُ بِأَنَّ مَا دُونُ الْقِصَاصِ يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ وَالتَّفَادِي مِنْهُ. وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَشَاعَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، قَالَ قَائِلُهُمْ، وَهُوَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ الْعَبْسِيُّ:
شَفَيْتُ النَّفْسَ مِنْ حَمْلِ بْنِ بَدْرٍ ... وَسَيْفِي مِنْ حُذَيْفَةَ قَدْ شَفَانِي
وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ [الْبَقَرَة: ١٧٩] .
وَمَعْنَى التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً حَثُّ جَمِيعِ الْأُمَّةِ عَلَى تَعَقُّبِ قَاتِلِ النَّفْسِ وَأَخْذِهِ أَيْنَمَا ثُقِفَ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ إِيوَائِهِ أَوِ السَّتْرِ عَلَيْهِ، كُلٌّ مُخَاطَبٌ عَلَى حَسَبِ مَقْدِرَتِهِ وَبِقَدْرِ بَسْطَةِ يَدِهِ فِي الْأَرْضِ، مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ إِلَى عَامَّةِ النَّاسِ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ التَّشْبِيهِ تَهْوِيلُ الْقَتْلِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَابِلٌ لِلْعَفْوِ مِنْ خُصُوصِ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ دُونَ بَقِيَّةِ النَّاسِ. عَلَى أَنَّ فِيهِ مَعْنًى نَفْسَانِيًّا جَلِيلًا، وَهُوَ أَنَّ الدَّاعِيَ الَّذِي يَقْدُمُ بِالْقَاتِلِ عَلَى الْقَتْلِ يَرْجِعُ إِلَى تَرْجِيحِ إِرْضَاءِ الدَّاعِي النَّفْسَانِيِّ النَّاشِئِ عَنِ الْغَضَبِ وَحُبِّ الِانْتِقَامِ عَلَى دَوَاعِي احْتِرَامِ الْحَقِّ وَزَجْرِ النَّفْسِ وَالنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْفِعْلِ مِنْ نُظُمِ الْعَالَمِ، فَالَّذِي كَانَ مِنْ حِيلَتِهِ تَرْجِيحُ ذَلِكَ الدَّاعِي الطَّفِيفِ عَلَى جُمْلَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي الشَّرِيفَةِ فَذَلِكَ ذُو نَفْسٍ يُوشِكُ أَنْ تَدْعُوَهُ دَوْمًا إِلَى هَضْمِ الْحُقُوقِ، فَكُلَّمَا سَنَحَتْ لَهُ الْفُرْصَةُ
قَتَلَ، وَلَوْ دَعَتْهُ أَنْ يَقْتُلَ النَّاسَ جَمِيعًا لَفَعَلَ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْمَقْصِدَ مِنَ التَّشْبِيهِ تَوْجِيهَ حُكْمِ الْقِصَاصِ وَحَقِّيَّتِهِ، وَأَنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ لِحَقِّ الْمَقْتُولِ بِحَيْثُ لَوْ تَمَكَّنَ لَمَا رَضِيَ إِلَّا بِجَزَاءِ قَاتِلِهِ بِمِثْلِ جُرْمِهِ فَلَا يَتَعَجَّبُ أَحَدٌ مِنْ حُكْمِ الْقِصَاصِ قَائِلًا: كَيْفَ نُصْلِحُ الْعَالَمَ بِمِثْلِ مَا فَسَدَ بِهِ، وَكَيْفَ نُدَاوِي الدَّاءَ بِدَاءٍ آخَرَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ قَاتِلَ النَّفْسِ عِنْدَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ كَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا. وَقَدْ ذُكِرَتْ وُجُوهٌ فِي بَيَانِ مَعْنَى التَّشْبِيهِ لَا يَقْبَلُهَا النَّظَرُ.
وَمَعْنَى وَمَنْ أَحْياها مَنِ اسْتَنْقَذَهَا مِنَ الْمَوْتِ، لِظُهُورِ أَنَّ الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute