الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَعِنْدَ الْيَهُودِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ تَأْيِيدَ الشَّرِيعَةِ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى يَزِيدُهَا قَبُولًا فِي النُّفُوسِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مُرَادٌ قَدِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْمَصْلَحَةَ مُلَازِمَةٌ لَهُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَقْوَامِ وَالْأَزْمَانِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَزَلْ فِي نُفُوسِهِمْ حَرَجٌ مِنْ مُسَاوَاةِ الشَّرِيفِ الضَّعِيفَ فِي الْقِصَاصِ، كَمَا قَالَتْ كَبْشَةُ أُخْتُ عَمْرو بن معد يكرب تَثْأَرُ بِأَخِيهَا عَبْدِ الله بن معد يكرب:
فَيقْتل جبرا بامرىء لَمْ يَكُنْ لَهُ ... بَوَاءً وَلَكِنْ لَا تَكَايُلَ بِالدَّمِ (١)
تُرِيدُ: رَضِينَا بِأَنْ يُقْتَلَ الرَّجُلُ الَّذِي اسْمُهُ (جَبْرٌ) بِالْمَرْءِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَيْسَ كُفُؤًا لَهُ، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ أَبْطَلَ تَكَايُلَ الدِّمَاءِ. وَالتَّكَايُلُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْدِيرِ النَّفْسِ بِعِدَّةِ أَنْفُسٍ، وَقَدْ قَدَّرَ شُيُوخُ بَنِي أَسَدٍ دَمَ حُجْرٍ وَالِدِ امْرِئِ الْقَيْسِ بِدِيَاتِ عَشَرَةٍ مِنْ سَادَةِ بَنِي أَسَدٍ فَأَبَى امْرُؤُ الْقَيْسِ قَبُولَ هَذَا التَّقْدِيرِ وَقَالَ لَهُمْ: «قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ حُجْرًا لَمْ يَكُنْ لِيَبُوءَ بِهِ شَيْءٌ» -
وَقَالَ مُهَلْهَلٌ حِينَ قَتَلَ بُجَيْرًا:
«بُؤْ بِشِسْعِ نَعْلِ كُلَيْبٍ» وَالْبَوَاءُ: الْكِفَاءُ. وَقَدْ عَدَّتِ الْآيَةُ فِي الْقِصَاصِ أَشْيَاءَ تَكْثُرُ إِصَابَتُهَا فِي الْخُصُومَاتِ لِأَنَّ الرَّأْسَ قَدْ حَوَاهَا وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْقَاتِلُ الرَّأْسَ ابْتِدَاءً.
وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَالْمُرَاد ب فَمَنْ تَصَدَّقَ مَنْ تَصَدَّقَ مِنْهُمْ، وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بَاءُ الْعِوَضِ فِي قَوْلِهِ بِالنَّفْسِ إِلَخْ، أَيْ مَنْ تَصَدَّقَ بِالْحَقِّ الَّذِي لَهُ، أَيْ تَنَازَلَ عَنِ الْعِوَضِ. وَضَمِيرُ لَهُ عَائِد إِلَى فَمَنْ تَصَدَّقَ. وَالْمُرَادُ مِنَ التَّصَدُّقِ الْعَفْوُ، لِأَنَّ الْعَفْوَ لَمَّا كَانَ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ بِيَدِ مُسْتَحِقِّ الْأَخْذِ بِالْقِصَاصِ جُعِلَ إِسْقَاطُهُِِ
(١) الْبَيْت لامْرَأَة من طي وَهُوَ من شعر «الحماسة» ، يُقَال: إنّه لكبشة أُخْت عَمْرو بن معد يكرب بنت بهدل الطَّائِي. وجبر هَذَا اسْم قَاتل أَبِيهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute