وَقَوْلُهُ: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ أَخْبَرَ بِالْقِصَاصِ عَنِ الْجُرُوحِ عَلَى حَذْفٍ مُضَافٍ، أَيْ ذَاتُ قِصَاصٍ. وقصاص مَصْدَرُ قَاصَّهُ الدَّالُّ عَلَى الْمُفَاعَلَةِ، لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ يُقَاصُّ الْجَانِيَ، وَالْجَانِيَ يُقَاصُّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ، أَيْ يَقْطَعُ كُلٌّ مِنْهُمَا التَّبِعَةَ عَنِ الْآخَرِ بِذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِصاصٌ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَالنَّصْبُ بِمَعْنَى الْمَنْصُوبِ، أَيْ مَقْصُوصٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَالْقِصَاصُ: الْمُمَاثَلَةُ، أَيْ عُقُوبَةُ الْجَانِي بِجِرَاحٍ أَنْ يُجْرَحَ مِثْلَ الْجُرْحِ الَّذِي جَنَى بِهِ عَمْدًا. وَالْمَعْنَى إِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ، أَيْ أُمِنَ مِنَ الزِّيَادَةِ
عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي الْعُقُوبَةِ، كَمَا إِذَا جَرَحَهُ مَأْمُومَةً عَلَى رَأْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي حِينَ يَضْرِبُ رَأْسَ الْجَانِي مَاذَا يَكُونُ مَدَى الضَّرْبَةِ فَلَعَلَّهَا تَقْضِي بِمَوْتِهِ فَيَنْتَقِلُ إِلَى الدِّيَةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي جِنَايَاتِ الْعَمْدِ، فَأَمَّا الْخَطَأُ فَلَمْ تَتَعَرَّضْ لَهُ الْآيَةُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا حُكْمَ التَّوْرَاةِ فِي الْجِنَايَةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ وَالْجُرُوحَ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى اسْمِ (أَنَّ) . وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ- بِالرَّفْعِ- عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، لِأَنَّهُ إِجْمَالٌ لحكم الْجراح بعد مَا فَصَّلَ حُكْمَ قَطْعِ الْأَعْضَاءِ.
وَفَائِدَةُ الْإِعْلَامِ بِمَا شَرَعَ اللَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْقِصَاصِ هُنَا زِيَادَةُ تَسْجِيلِ مُخَالَفَتِهِمْ لِأَحْكَامِ كِتَابِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ فِي الْمَدِينَةِ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِي حُرُوبِ بُعَاثٍ فَكَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ حَرْبًا، ثُمَّ تَحَاجَزُوا وَانْهَزَمَتْ قُرَيْظَةُ، فَشَرَطَتِ النَّضِيرُ عَلَى قُرَيْظَةَ أَنَّ دِيَةَ النَّضِيرِيِّ عَلَى الضِّعْفِ مِنْ دِيَةِ الْقُرَظِيِّ وَعَلَى أَنَّ الْقُرَظِيَّ يُقْتَلُ بِالنَّضِيرِيِّ وَلَا يُقْتَلُ النَّضِيرِيُّ بِالْقُرَظِيِّ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ تَحْرِيفَهُمْ لِكِتَابِهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ
[الْبَقَرَة: ٨٤، ٨٥] .
وَيَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا تَأْيِيدُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ إِذْ جَاءَتْ بِمُسَاوَاةِ الْقِصَاصِ وَأَبْطَلَتِ التَّكَايُلَ فِي الدِّمَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute