عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: ٤٤] انْتِقَالًا إِلَى أَحْوَالِ النَّصَارَى لِقَوْلِهِ: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، وَلِبَيَانِ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ إِعْرَاضِ الْيَهُودِ عَنِ الْأَحْكَامِ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ نَوْعَيْنِ رَاجِعَيْنِ إِلَى تَحْرِيفِهِمْ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ: أَحَدُهُمَا: مَا حَرَّفُوهُ وَتَرَدَّدُوا فِيهِ بَعْدَ أَنْ حَرَّفُوهُ فَشَكُّوا فِي آخِرِ الْأَمْرِ وَالْتَجَئُوا إِلَى تَحْكِيمِ الرَّسُولِ وَثَانِيهِمَا:
مَا حَرَّفُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِهِ وَلَمْ يَتَحَرَّجُوا مِنْهُ وَهُوَ إِبْطَالُ أَحْكَامِ الْقِصَاصِ. وَهَذَا نَوْعٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِتَكْذِيبِهِمْ لِمَا جَاءَ بِهِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَالتَّقْفِيَةُ مَصْدَرُ قَفَّاهُ إِذَا جَعَلَهُ يَقْفُوهُ، أَيْ يَأْتِي بَعْدَهُ. وَفِعْلُهُ الْمُجَرَّدُ قَفَا- بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ- وَمَعْنَى قَفَاهُ سَارَ نَحْوَ قَفَاهُ، وَالْقَفَا الظَّهْرُ، أَيْ سَارَ وَرَاءَهُ. فالتقفية الإتباع متشقّة مِنَ الْقَفَا، وَنَظِيره: توجّه مشتقّا مِنَ الْوَجْهِ، وَتَعَقَّبَ مِنَ الْعقب. وَفعل قفّى الْمُشَدَّدُ مُضَاعَفُ قَفَا الْمُخَفَّفِ، وَالْأَصْلُ فِي التَّضْعِيفِ أَنْ يُفِيدَ تَعْدِيَةَ الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولٍ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا إِلَيْهِ، فَإِذَا جُعِلَ تَضْعِيفُ قَفَّيْنا هُنَا مُعَدِّيًا لِلْفِعْلِ اقْتَضَى مَفْعُولَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: الَّذِي كَانَ مَفْعُولًا قَبْلَ التَّضْعِيفِ، وَثَانِيهِمَا: الَّذِي عُدِّيَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ، وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ بَابِ كَسَا فَيَكُونُ حَقُّ التَّرْكِيبِ: وَقَفَّيْنَاهُمْ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَيَكُونُ إِدْخَالُ الْبَاءِ فِي بِعِيسَى لِلتَّأْكِيدِ، مثل وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] ، وَإِذَا جُعِلَ التَّضْعِيفُ لِغَيْرِ التَّعْدِيَةِ بَلْ لِمُجَرَّدِ تَكْرِيرِ وُقُوعِ الْفِعْلِ، مِثْلَ جَوَّلْتُ وَطَوَّفْتُ كَانَ حَقُّ التَّرْكِيبِ: وَقَفَّيْنَاهُمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي جَرَى كَلَامُ «الْكَشَّافِ» فَجَعَلَ بَاءَ بِعِيسَى لِلتَّعْدِيَةِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ مَفْعُولُ قَفَّيْنا مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلى آثارِهِمْ لِأَنَّ فِيهِ ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ، هَذَا تَحْقِيقُ كَلَامِهِ وَسَلَّمَهُ أَصْحَابُ حَوَاشِيهِ.
وَقَوْلُهُ عَلى آثارِهِمْ تَأْكِيدٌ لِمَدْلُولِ فِعْلِ قَفَّيْنا وَإِفَادَةُ سُرْعَةِ التَّقْفِيَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute