وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ وَيَكُونُ الْكَلَامُ تَهَكُّمًا، أَيْ تَنْقِمُونَ مِنَّا أَنَّنَا آمَنَّا كَإِيمَانِكُمْ وَصَدَّقْنَا رُسُلَكُمْ وَكُتُبَكُمْ، وَذَلِكَ نَقْمُهُ عَجِيبٌ وَأَنَّنَا آمَنَّا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَذَلِكَ لَا يُهِمُّكُمْ. وَتَنْقِمُونَ مِنَّا أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، أَيْ وَنَحْنُ صَالِحُونَ، أَيْ هَذَا نَقْمُ حَسَدٍ، أَيْ وَنَحْنُ لَا نَمْلِكُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ. فَظَهَرَتْ قَرِينَةُ التَّهَكُّمِ فَصَارَ فِي الِاسْتِفْهَامِ إِنْكَارٌ فَتَعَجُّبٌ فَتَهَكُّمٌ، تَوَلَّدَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَكُلُّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ الِاسْتِفْهَامِ فِي مُجَازَاتِهِ أَوْ فِي مَعَانٍ كِنَائِيَّةٍ، وَبِهَذَا يَكْمُلُ الْوَجْهُ الَّذِي قَدَّمَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» .
ثُمَّ اطَّرَدَ فِي التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَالْعَجَبِ مِنْ أَفَنِ رَأْيِهِمْ مَعَ تَذْكِيرِهِمْ بِمَسَاوِيهِمْ فَقَالَ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ إِلَخْ. وشرّ اسْمُ تَفْضِيلٍ، أَصْلُهُ أَشَرُّ، وَهُوَ لِلزِّيَادَةِ فِي الصِّفَةِ، حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَالزِّيَادَةُ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي أَصْلِ الْوَصْفِ فَتَقْتَضِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ حَظٌّ مِنَ الشَّرِّ، وَإِنَّمَا جَرَى هَذَا تَهَكُّمًا بِالْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: لَا دِينَ شَرٌّ مِنْ دِينِكُمْ، وَهُوَ مِمَّا عُبِّرَ عَنْهُ بِفِعْلِ تَنْقِمُونَ. وَهَذَا مِنْ مُقَابَلَةِ الْغِلْظَةِ بِالْغِلْظَةِ كَمَا يُقَالُ: «قُلْتَ فَأَوْجَبْتَ» .
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ ذلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ إِلَخْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَنْقُومٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ. وَالتَّقْدِيرِ: وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الْمَنْقُومِ أَنْ يَكُونَ شَرًّا بُنِيَ عَلَيْهِ التَّهَكُّمُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ، أَيْ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ شَرًّا.
وَالْمَثُوبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ ثَابَ يَثُوبُ، أَيْ رَجَعَ، فَهِيَ بِوَزْنِ مُفَعْوِلَةٍ، سُمِّيَ بِهَا الشَّيْءُ الَّذِي يَثُوبُ بِهِ الْمَرْءُ إِلَى مَنْزِلِهِ إِذَا نَالَهُ جَزَاءً عَنْ عَمَلٍ عَمِلَهُ أَوْ سَعْيٍ سَعَاهُ، وَأَصْلُهَا مَثُوبٌ بِهَا، اعْتَبَرُوا فِيهَا التَّأْنِيثَ عَلَى تَأْوِيلِهَا بِالْعَطِيَّةِ أَوِ الْجَائِزَةِ ثُمَّ حُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ.
وَأَصْلُهَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّهَا لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى شَيْءٍ وُجُودِيٍّ يُعْطَاهُ الْعَامِلُ وَيَحْمِلُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute