مَعَهُ، فَلَا تُطْلَقُ عَلَى الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يَثُوبُ بِهِ الْمَرْءُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا يَبْنُونَ كَلَامَهُمْ عَلَى طِبَاعِهِمْ وَهُمْ أَهْلُ كَرَمٍ لِنَزِيلِهِمْ، فَلَا يُرِيدُونَ بِالْمَثُوبَةِ إِلَّا عَطِيَّةً نَافِعَةً.
وَيَصِحُّ إِطْلَاقُهَا عَلَى الشَّيْءِ النَّفِيسِ وَعَلَى الشَّيْءِ الْحَقِيرِ مِنْ كُلِّ مَا يَثُوبُ بِهِ الْمُعْطَى.
فَجَعْلُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَمْيِيزًا لِاسْمِ الزِّيَادَةِ فِي الشَّرِّ تهكّم لأنّ اللّغة وَالْغَضَبَ وَالْمَسْخَ لَيْسَتْ مَثُوبَاتٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونَا
وَقَوْلِ عَمْرو بن معد يكرب:
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
وَقَوْلُهُ: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ مُبْتَدَأٌ، أُرِيدَ بِهِ بَيَانُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَثُوبَةً. وَفِيهِ مُضَافٌ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَتَقْدِيرُهُ: مَثُوبَةُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: أَنْتُمْ أَوِ الْيَهُودُ، إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْنِيِّ مِنَ الصِّلَةِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَسْلَافًا مِنْهُمْ وَقَعَتْ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ وَالْغَضَبُ مِنْ عَهْدِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَدَلَائِلُهُ ثَابِتَةٌ فِي التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ أَنْبِيَائِهِمْ، فَالْمَوْصُولُ كِنَايَةٌ عَنْهُمْ.
وَأَمَّا جَعْلُهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي حَقِيقَتِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ فَهُوَ إِذْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَهْلَ تَوْحِيدٍ فَمِنْ ذَلِكَ عِبَادَتُهُمُ الْعِجْلَ.
وَالطَّاغُوتُ: الْأَصْنَامُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥١] .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ فِي عَبَدَ وَبِفَتْحِ التَّاءِ مِنَ الطَّاغُوتَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ عَبَدَ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّلَةِ فِي قَوْلِهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، أَيْ وَمَنْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ وَبِكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ مِنْ كَلِمَةِ الطَّاغُوتِ- عَلَى أَنَّ «عَبُدَ» جَمْعُ عَبْدٍ، وَهُوَ جَمْعٌ سَمَاعِيٌّ قَلِيلٌ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute