وَأُخِذَ لَهُمْ مِنَ الْغُلِّ الْمَجَازِيِّ مُقَابِلُهُ الْغُلُّ الْحَقِيقِيُّ فِي الدُّعَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي انْتِزَاعِ الدُّعَاءِ مِنْ لَفْظِ سَبَبِهِ أَوْ نَحْوِهِ،
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عُصَيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَسْلَمَ سَلَّمَهَا اللَّهُ، وَغِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا»
. وَجُمْلَةُ وَلُعِنُوا بِما قالُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْشَاءَ دُعَاءٍ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِخْبَارًا بِأَنَّ اللَّهَ لَعَنَهُمْ لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ هَذَا، نَظِيرَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١١٧، ١١٨] .
وَقَوْلُهُ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ نَقْضٌ لِكَلَامِهِمْ وَإِثْبَاتُ سَعَةِ فَضْلِهِ تَعَالَى. وَبَسْطُ الْيَدَيْنِ تَمْثِيلٌ لِلْعَطَاءِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ الْإِنْعَامِ بِأَشْيَاءَ تُعْطَى بِالْيَدَيْنِ.
وَذِكْرُ الْيَدِ هُنَا بِطَرِيقَةِ التَّثْنِيَةِ لِزِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْجُودِ، وَإِلَّا فَالْيَدُ فِي حَالِ الِاسْتِعَارَةِ لِلْجُودِ أَوْ لِلْبُخْلِ لَا يُقْصَدُ مِنْهَا مُفْرَدٌ وَلَا عَدَدٌ، فَالتَّثْنِيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مُطْلَقِ التَّكْرِيرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: ٤] ، وَقَوْلِهِمْ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ» . وَقَالَ الشَّاعِرُ
(أَنْشَدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَلَمْ يَعْزُهُ هُوَ وَلَا شَارِحُوهُ) :
جَادَ الْحِمَى بَسِطُ الْيَدَيْنِ بِوَابِلٍ ... شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلَاعُهُ وَوِهَادُهُ
وَجُمْلَةُ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ بَيَانٌ لِاسْتِعَارَةِ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ. وكَيْفَ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْحَالَةِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَفِي قَوْلِهِ: كَيْفَ يَشاءُ زِيَادَةُ إِشَارَةٍ إِلَى أَنَّ تَقْتِيرَهُ الرِّزْقَ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ لِمَصْلَحَةٍ، مِثْلَ الْعِقَابِ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى: ٢٧] .
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. وَقَعَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِجُمْلَةِ بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ،