فَحَقٌّ عَلَيْنَا أَنْ نَخُصَّهَا مِنَ الْبَيَانِ بِمَا لَمْ يَسْبِقْ لَنَا مِثْلُهُ فِي نَظِيرَتِهَا وَلِنَبْدَأَ بِمَوْقِعِهَا فَإِنَّهُ مَعْقَدُ مَعْنَاهَا:
فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ يَخْطُرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ لِقَوْلِهِ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [الْمَائِدَة: ٦٨] فَيَسْأَلُ سَائِلٌ عَنْ حَالِ مَنِ انْقَرَضُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ: هَلْ هُمْ عَلَى شَيْءٍ أَوْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَهَلْ نَفَعَهُمُ اتِّبَاعُ دِينِهِمْ أَيَّامَئِذٍ فَوَقَعَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا الْآيَةَ جَوَابًا لِهَذَا السُّؤَالِ المقدّر. وَالْمرَاد بالّذين آمَنُوا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّه وبمحمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيِ الْمُسْلِمُونَ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنِ الْإِخْبَارِ الَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابُونَ وَالنَّصَارَى، وَأَمَّا التَّعَرُّضُ لِذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا فَلِاهْتِمَامٍ بِهِمْ سَنُبَيِّنُهُ قَرِيبًا.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُؤَكِّدَةً لِجُمْلَةِ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا [الْمَائِدَة: ٦٥] إِلَخْ، فَبَعْدَ أَنْ أُتْبِعَتْ تِلْكَ الْجُمْلَةُ بِمَا أُتْبِعَتْ بِهِ مِنَ الْجُمَلِ عَادَ الْكَلَامُ بِمَا يُفِيدُ مَعْنَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ تَأْكِيدًا لِلْوَعْدِ، وَوَصْلًا لِرَبْطِ الْكَلَامِ، وَلِيُلْحَقَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الصَّابِئُونَ، وَلِيَظْهَرَ الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
فَالتَّصْدِيرُ بِذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا فِي طَالِعَةِ الْمَعْدُودِينَ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمُ الْمِثَالُ الصَّالِحُ فِي كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالتَّحَرُّزِ عَنِ الْغُرُورِ وَعَنْ تَسَرُّبِ مَسَارِبِ الشِّرْكِ إِلَى عَقَائِدِهِمْ (كَمَا بَشَّرَ بذلك النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ»
) فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّهُمُ الْأَوْحَدُونَ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، أَوَّلِينَ فِي هَذَا الْفَضْلِ.
وَأَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ فَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفِ إِنْ هُنَا لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِعِرِوِّ الْمَقَامِ عَنْ إِرَادَةِ رَدِّ إِنْكَارٍ أَوْ تَرَدُّدٍ فِي الْحُكْمِ أَوْ تَنْزِيلِ غَيْرِ الْمُتَرَدِّدِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute