للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَدْ تَحَيَّرَ النَّاظِرُونَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ جَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ بِقَوْلِهِ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، إِذْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَذْكُورِينَ الْمُؤْمِنُونَ، وَهَلِ الْإِيمَانُ إِلَّا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ وَذَهَبَ النَّاظِرُونَ فِي تَأْوِيلِهِ مَذَاهِبَ: فَقِيلَ: أُرِيدَ بِالَّذِينَ آمَنُوا مَنْ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ دُونَ قُلُوبِهِمْ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِمَنْ آمَنَ مَنْ دَامَ عَلَى إِيمَانِهِ وَلَمْ يَرْتَدَّ. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ.

وَالْوَجْهُ عِنْدِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ آمَنُوا أَصْحَابُ الْوَصْفِ الْمَعْرُوفِ بِالْإِيمَانِ وَاشْتَهَرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَعْدٌ بِجَزَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنَ الْحَقَّ وَالْمُتَظَاهِرَ بِالْإِيمَانِ نِفَاقًا.

فَالَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُجْعَلَ خَبَرُ (إِنَّ) مَحْذُوفًا. وَحَذْفُ خَبَرِ (إِنَّ) وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ غَيْرُ قَلِيلٍ، كَمَا ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ» . وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْخَبَرِ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ من قَوْله: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «١» إِلَخْ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هادُوا عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، فَيُجْعَلُ الَّذِينَ هادُوا مُبْتَدَأً، وَلِذَلِكَ حَقَّ رَفْعُ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَالصَّابِئُونَ. وَهَذَا أَوْلَى من جعل وَالصَّابِئُونَ مَبْدَأَ الْجُمْلَةِ وَتَقْدِيرِ خَبَرٍ لَهُ، أَيْ وَالصَّابُونَ كَذَلِكَ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى اخْتِلَافِ الْمُتَعَاطِفَاتِ فِي الْحُكْمِ وَتَشْتِيتِهَا مَعَ إِمْكَان التفصّي عَنْ ذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ مُبْتَدَأً ثَانِيًا، وَتَكُونُ (مَنْ) مَوْصُولَةً، وَالرَّابِطُ لِلْجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا مَحْذُوفًا، أَيْ مَنْ آمَنَ مِنْهُم، وَجُمْلَة فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «٢» خَبَرًا عَنْ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ، وَاقْتِرَانُهَا بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ شَبِيهٌ بِالشَّرْطِ. وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [البروج: ١٠] الْآيَةَ، وَوُجُودُ الْفَاءِ فِيهِ يُعَيِّنُ كَوْنَهُ خَبَرًا عَنْ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ وَلَيْسَ خَبَرُ- إِنَّ-

عَلَى عَكْسِ قَوْلِ ضَابِي بْنِ الْحَارِثِ:

وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّيَ وَقَبَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ

فَإِنَّ وُجُودَ لَامِ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ: «لَغَرِيبُ» عَيَّنَ أَنَّهُ خَبَرُ (إِنَّ) وَتَقْدِيرُ خَبَرٍ عَنْ قَبَّارٍ، فَلَا يُنَظَّرُ بِهِ قَوْله تَعَالَى: وَالصَّابِئُونَ.


(١، ٢) فِي المطبوعة [التونسية] فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ الْمُوَافقَة لـ[الْبَقَرَة: ٦٢] والمثبت هُوَ الْمَقْصُود وَالله أعلم.