(مَا) الظَّرْفِيَّةُ الْمَصْدَرِيَّةُ. وَالتَّقْدِيرُ: فِي كُلِّ أَوْقَاتِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ كَذَّبُوا وَيَقْتُلُونَ. وَانْتَصَبَ كُلَّما بِالْفِعْلَيْنِ وَهُوَ كَذَّبُوا ويَقْتُلُونَ عَلَى التَّنَازُعِ.
وَتَقْدِيمُ كُلَّما عَلَى الْعَامِلِ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ لَا يَكَادُ يَتَخَلَّفُ، لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِتَقْدِيمِهِ الِاهْتِمَامَ بِهِ، لِيَظْهَرَ أَنَّهُ هُوَ مَحَلُّ الْغَرَضِ الْمَسُوقَةِ لَهُ جُمْلَتُهُ، فَإِنَّ اسْتِمْرَارَ صَنِيعِهِمْ ذَلِكَ مَعَ جَمِيعِ الرُّسُلِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ وَالْقَتْلَ صَارَا سَجِيَّتَيْنِ لَهُمْ لَا تَتَخَلَّفَانِ، إِذْ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى حَالِ رَسُولٍ دُونَ آخَرَ وَلَا إِلَى زَمَانٍ دُونَ آخَرَ، وَذَلِكَ أَظْهَرُ فِي فَظَاعَةِ حَالِهِمْ، وَهِيَ الْمَقْصُودُ هُنَا.
وَبِهَذَا التَّقْدِيمِ يُشْرَبُ ظَرْفُ كُلَّما مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ فَيَصِيرُ الْعَامِلُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ لَهُ، كَمَا تَصِيرُ أَسْمَاءُ الشَّرْطِ مُتَقَدِّمَةً عَلَى أَفْعَالِهَا وَأَجْوِبَتِهَا فِي نَحْوِ أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النِّسَاء: ٧٨] . إِلَّا أَنَّ كُلَّما لَمْ يُسْمَعِ الْجَزْمُ بَعْدَهَا وَلِذَلِكَ لَمْ تُعَدَّ فِي أَسْمَاءِ الشَّرْطِ لِأَنَّ (كُلَّ) بَعِيدٌ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ. وَالْحَقُّ أَنَّ إِطْلَاقَ الشَّرْطِ عَلَيْهَا فِي كَلَامِ بَعْضِ النُّحَاةِ تَسَامُحٌ. وَقَدْ أَطْلَقَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لَهَا سَبَبًا لَفْظِيًّا يُوجِبُ تَقْدِيمَهَا بِخِلَافِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: [٨٧] ، وَفِي قَوْلِهِ: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [١٠٠] فِي تِلْكَ السُّورَةِ، فَإِنَّ التَّقْدِيمَ فِيهِمَا تَبَعٌ لِوُقُوعِهِمَا مُتَّصِلَتَيْنِ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَكَتَ عَلَيْهِمَا فِي «الْكَشَّافِ» لِظُهُورِ أَمْرِهِمَا فِي تَيْنِكَ الْآيَتَيْنِ.
فَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَرِيقاً كَذَّبُوا حَالًا مِنْ ضَمِيرِ إِلَيْهِمْ لِاقْتِرَانِهَا بِضَمِيرٍ مُوَافِقٍ لِصَاحِبِ الْحَالِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخَبَرِ تَفْظِيعُ حَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ لِهُدَاتِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ هَذِهِ حَالُهُمْ مَعَ رُسُلِهِمْ.
وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَمَا تَقَدَّمَهَا مِنْ مُتَعَلِّقِهَا اسْتِئْنَافًا، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا بَلْ بِمَدْلُولِ هَذَا الْحَالِ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ التَّقْسِيمَ فِي قَوْلِهِ: فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ لَيْسَ لِرَسُولٍ مِنْ قَوْلِهِ: كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بَلْ لِ رُسُلًا، لِأَنَّنَا اعْتَبَرْنَا قَوْلَهُ: كُلَّما جاءَهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute