رَسُولٌ مُقَدَّمًا مِنْ تَأْخِيرٍ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كَذَّبُوا مِنْهُمْ فَرِيقًا وَقَتَلُوا فَرِيقًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ. وَبِهَذَا نَسْتَغْنِي عَنْ تَكَلُّفَاتٍ وَتَقْدِيرٍ فِي نَظْمِ الْآيَةِ الْآتِي عَلَى أَبْرَعِ وُجُوهِ الْإِيجَازِ وَأَوْضَحِ الْمَعَانِي.
وَقَوْلُهُ: بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ أَيْ بِمَا لَا تُحِبُّهُ. يُقَالُ: هَوِيَ يَهْوَى بِمَعْنَى أَحَبَّ وَمَالَتْ نَفْسُهُ إِلَى مُلَابَسَةِ شَيْءٍ. إِنَّ بَعْثَةَ الرُّسُلَ الْقَصْدُ مِنْهَا كَبْحُ الْأَنْفُسِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ هَوَاهَا الْمُوقِعِ لَهَا فِي الْفَسَادِ عَاجِلًا وَالْخُسْرَانِ آجِلًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتُرِكَ النَّاسُ وَمَا يَهْوَوْنَ، فَالشَّرَائِعُ مُشْتَمِلَةٌ لَا مَحَالَةَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَنْعِ النُّفُوسِ مِنْ هَوَاهَا. وَلَمَّا وُصِفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ ويقتلونهم إِذا جاؤوهم بِمَا يُخَالِفُ هَوَاهُمْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ رَسُولٌ جَاءَهُمْ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا: وَهُمَا التَّكْذِيبُ وَالْقَتْلُ. وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ، فَلَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَائِدَةٌ إِلَّا الْإِشَارَةَ إِلَى زِيَادَةِ تَفْظِيعِ حَالِهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ أَوْ يَقْتُلُونَهُمْ فِي غَيْرِ حَالَةٍ يَلْتَمِسُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِيهَا عُذْرًا مِنْ تَكْلِيفٍ بِمَشَقَّةٍ فَادِحَةٍ، أَوْ مِنْ حُدُوثِ حَادِثِ ثَائِرَةٍ، أَوْ مِنْ أَجْلِ التَّمَسُّكِ بِدِينٍ يَأْبَوْنَ مُفَارَقَتَهُ، كَمَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ فِي مَجِيءِ الْإِسْلَامِ، بَلْ لِمُجَرَّدِ مُخَالَفَةِ هَوَى أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ فَقَبِلُوهُ فَتَتَعَطَّلُ بِتَمَرُّدِهِمْ فَائِدَةُ التَّشْرِيعِ وَفَائِدَةُ طَاعَةِ الْأُمَّةِ لِهُدَاتِهَا.
وَهَذَا تَعْلِيمٌ عَظِيمٌ مِنَ الْقُرْآنِ بِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْأُمَمِ أَنْ تَكُونَ سَائِرَةً فِي طَرِيقِ إِرْشَادِ عُلَمَائِهَا وَهُدَاتِهَا، وَأَنَّهَا إِذَا رَامَتْ حَمْلَ عُلَمَائِهَا وَهُدَاتِهَا عَلَى مُسَايَرَةِ أَهْوَائِهَا، بِحَيْثُ يُعْصَوْنَ إِذَا دَعَوْا إِلَى مَا يُخَالِفُ هَوَى الْأَقْوَامِ فَقَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْخُسْرَانُ كَمَا حَقَّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قَلْبًا لِلْحَقَائِقِ وَمُحَاوَلَةَ انْقِلَابِ التَّابِعِ مَتْبُوعًا وَالْقَائِدِ مَقُودًا، وَأَنَّ قَادَةَ الْأُمَمِ وَعُلَمَاءَهَا وَنُصَحَاءَهَا إِذَا سَايَرُوا الْأُمَمَ عَلَى هَذَا الْخُلُقِ كَانُوا غَاشِّينَ لَهُمْ، وَزَالَتْ
فَائِدَةُ عِلْمِهِمْ وَحِكْمَتِهِمْ وَاخْتَلَطَ الْمَرْعِيُّ بِالْهَمَلِ وَالْحَابِلُ بِالنَّابِلِ، وَقَدْ
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَغَشَّهَا لَمْ يَشَمَّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» .
فَالْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْذِرَةِ لِأَنَّهُمْ قَابَلُوا الرَّسُولَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute