للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَعَدَلَ هُنَا عَنِ النَّفْيِ بِلَا التَّبْرِئَةِ فَلَمْ يَقُلْ (وَلَا إِلَهَ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) إِلَى قَوْلِهِ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ اهْتِمَامًا بِإِبْرَازِ حَرْفِ (مِنْ) الدَّالِّ بَعْدَ النَّفْيِ عَلَى تَحْقِيقِ النَّفْيِ، فَإِنَّ النَّفْيَ بِحَرْفِ (لَا) مَا أَفَادَ نَفْيَ الْجِنْسِ إِلَّا بِتَقْدِيرِ حَرْفِ (مِنْ) ، فَلَمَّا قُصِدَتْ زِيَادَةُ الِاهْتِمَامِ بِالنَّفْيِ هُنَا جِيءَ بِحَرْفِ (مَا) النَّافِيَةِ وَأَظْهَرَ بَعْدَهُ حَرْفَ (مِنْ) . وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.

وَقَوْلُهُ: إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ يُفِيدُ حَصْرَ وَصْفِ الْإِلَهِيَّةِ فِي وَاحِدٍ فَانْتَفَى التَّثْلِيثُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ. وَأَمَّا تَعْيِينُ هَذَا الْوَاحِدِ مَنْ هُوَ، فَلَيْسَ مَقْصُودًا تَعْيِينُهُ هُنَا لِأَنَّ الْقَصْدَ إِبْطَالُ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ فَإِذَا بَطَلَ التَّثْلِيثُ، وَثَبَتَتِ الْوَحْدَانِيَّةُ تَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى إِلَهِيَّتِهِ، فَلَمَّا بَطَلَتْ إِلَهِيَّةُ غَيْرِهِ مَعَهُ تَمَحَّضَتِ الْإِلَهِيَّةُ لَهُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ هُنَا وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٦٢] وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَقَدَّمَ هُنَا وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْمُبْطِلِينَ (إِنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) فَاسْتُغْنِيَ بِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ عَنْ تَعْيِينِهِ. وَلِهَذَا صَرَّحَ بِتَعْيِينِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٦٢] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ إِذِ الْمَقَامُ اقْتَضَى تَعْيِينَ انْحِصَارِ الْإِلَهِيَّةِ فِي اللَّهِ تَعَالَى دُونَ عِيسَى وَلَمْ يَجْرِ فِيهِ ذِكْرٌ لِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ.

وَقَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، أَيْ لَقَدْ كَفَرُوا كُفْرًا إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْهُ أَصَابَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَمَعْنَى عَمَّا يَقُولُونَ أَيْ عَنْ قَوْلِهِمُ الْمَذْكُورِ آنِفًا وَهُوَ إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ. وَقَدْ جَاءَ بِالْمُضَارِعِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلِانْتِهَاءِ إِذِ الِانْتِهَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ شَيْءٍ مُسْتَمِرٍّ كَمَا نَاسَبَ قَوْلُهُ قالُوا قَوْلَهُ لَقَدْ كَفَرَ، لِأَنَّ الْكُفْرَ حَصَلَ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنَ الزَّمَنِ الْمَاضِي. وَمَعْنَى عَمَّا يَقُولُونَ عَمَّا يَعْتَقِدُونَ، لِأَنَّهُمْ لَوِ انْتَهَوْا عَنِ الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ وَأَضْمَرُوا اعْتِقَادَهُ لَمَا نَفَعَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الْقَوْلِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادٍ كَانَ صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الِاعْتِقَادِ مَعَ مَعْنَاهُ الصَّرِيحِ. وَأَكَّدَ الْوَعِيدَ بِلَامِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ لَيَمَسَّنَّ رَدًّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ، لِأَنَّ صَلْبَ عِيسَى كَانَ كَفَّارَةً عَنْ خَطَايَا بَنِي آدَمَ.