كَمَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْمَقَامِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا [الْأَنْعَام: ١٥٠] فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَضَبِ عَلَى مَنْ حَرَّمُوهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لَهُمْ أَنْ يَجْتَنِبُوهُ.
وَأُدْخِلَتْ (مِنْ) الزَّائِدَةُ بَعْدَ النَّفْيِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ نَفْيُ الْجِنْسِ لَا نَفْيَ أَفْرَادٍ مُعَيَّنَةٍ، فَقَدْ سَاوَى أَنْ يُقَالَ: لَا بَحِيرَةَ وَلَا سَائِبَةَ مَعَ قَضَاءِ حَقِّ الْمَقَامِ مِنْ بَيَانِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ فَهُوَ حَرَامٌ.
وَالْبَحِيرَةُ- بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ- فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، أَيْ مَبْحُورَةٍ، وَالْبَحْرُ الشَّقُّ. يُقَالُ: بَحَرَ شَقَّ. وَفِي حَدِيثِ حَفْرِ زَمْزَمَ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بَحَرَهَا بَحْرًا، أَيْ شَقَّهَا وَوَسَّعَهَا. فَالْبَحِيرَةُ هِيَ النَّاقَةُ، كَانُوا يَشُقُّونَ أُذُنَهَا بِنِصْفَيْنِ طُولًا عَلَامَةً عَلَى تَخْلِيَتِهَا، أَيْ أَنَّهَا لَا تُرْكَبُ وَلَا تُنْحَرُ وَلَا تُمْنَعُ عَنْ مَاءٍ وَلَا عَنْ مَرْعًى وَلَا يَجْزُرُونَهَا وَيَكُونُ لَبَنُهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ، أَيْ أَصْنَامِهِمْ، وَلَا يَشْرَبُ لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَشْرَبُهُ إِذَا كَانَتْ ضِيَافَةً لِزِيَارَةِ الصَّنَمِ أَوْ إِضَافَةَ سَادِنِهِ، فَكُلُّ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ تَكُونُ بَحَائِرُهُمْ لِصَنَمِهِمْ.
وَقَدْ كَانَتْ لِلْقَبَائِلِ أَصْنَامٌ تَدِينُ كُلُّ قَبِيلَةٍ لِصَنَمٍ أَوْ أَكْثَرَ. وَإِنَّمَا يَجْعَلُونَهَا بَحِيرَةً إِذَا نُتِجَتْ (١) عَشَرَةَ أَبْطُنٍ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقِيلَ: إِذَا نُتِجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ وَكَانَ الْخَامِسُ ذَكَرًا.
وَإِذَا مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا حَلَّ أَكْلُ لَحْمِهَا لِلرِّجَالِ وَحُرِّمَ عَلَى النِّسَاءِ.
وَالسَّائِبَةُ: الْبَعِيرُ أَوِ النَّاقَةُ يُجْعَلُ نَذْرًا عَنْ شِفَاءٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ قُدُومٍ مِنْ سَفَرٍ، فَيَقُولُ:
أَجْعَلُهُ لِلَّهِ سَائِبَةً. فَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ كَتَاءِ نَسَّابَةٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: عَبْدٌ سَائِبَةٌ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الِانْطِلَاقِ وَالْإِهْمَالِ، وَقِيلَ: فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مُسَيَّبٌ.
وَحُكْمُ السَّائِبَةِ كَالْبَحِيرَةِ فِي تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْعِتْقِ وَكَانُوا يَدْفَعُونَهَا
(١) نتجت مَبْنِيّ للْمَفْعُول وَهُوَ يتَعَدَّى إِلَى مفعولين فأولهما جعل نَائِب فَاعل وَثَانِيهمَا هُوَ الْمَنْصُوب.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute