للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(١١٠)

جُمْلَةُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا- إِلَى قَوْلِهِ- وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ [الْمَائِدَة: ٨٥] . وَمَا بَيْنَهُمَا جُمَلٌ مُعْتَرِضَةٌ نَشَأَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَعَادَ الْكَلَامُ الْآنَ إِلَى أَحْوَالِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَبَدَّلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ تَبْدِيلًا بَلَغَ بِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ وَمُضَاهَاةِ الْمُشْرِكِينَ، لِلتَّذْكِيرِ بِهَوْلٍ عَظِيمٍ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَكُونُ فِيهِ شَهَادَةُ الرُّسُلِ عَلَى الْأُمَمِ وَبَرَاءَتُهُمْ مِمَّا أَحْدَثَهُ أُمَمُهُمْ بُعْدَهُمْ فِي الدِّينِ مِمَّا لَمْ

يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَالتَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى شَهَادَةِ عِيسَى عَلَى النَّصَارَى بِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِتَأْلِيهِهِ وَعِبَادَتِهِ. وَهَذَا مُتَّصِلٌ فِي الْغَرَضِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [الْمَائِدَة: ٨٢] . فَإِنَّ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، وَإِبْعَادًا وَتَقْرِيبًا، وَقَعَ الِانْتِقَالُ مِنْهَا إِلَى أَحْكَامٍ تَشْرِيعِيَّةٍ نَاسَبَتْ مَا ابْتَدَعَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [الْمَائِدَة: ٨٧] وَتَفَنُّنُ الِانْتِقَالِ إِلَى هَذَا الْمَبْلَغِ، فَهَذَا عَوْدٌ إِلَى بَيَانِ تَمَامِ نُهُوضِ الْحُجَّةِ عَلَى النَّصَارَى فِي مَشْهَدِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلَقَدْ جَاءَ هَذَا مُنَاسِبًا لِلتَّذْكِيرِ الْعَامِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَة: ١٠٨] . وَلِمُنَاسَبَةِ هَذَا الْمَقَامِ الْتَزَمَ وَصْفَ عِيسَى بِابْنِ مَرْيَمَ كُلَّمَا تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ تَعْرِيضًا بِإِبْطَالِ دَعْوَى أَنَّهُ ابْنٌ لِلَّهِ تَعَالَى.

وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى الِاسْتِشْهَادِ عَلَى وَصَايَا الْمَخْلُوقِينَ نَاسَبَ الِانْتِقَالَ إِلَى شَهَادَةِ الرُّسُلِ عَلَى وَصَايَا الْخَالِقِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْأَدْيَانَ وَصَايَا اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ. قَالَ تَعَالَى:

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى [الشورى: ١٣] . وَقَدْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى شُهَدَاءً فِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: ٤١] .

فَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَجْمَعُ ظَرْفٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَعْمُولٌ لِعَامِلٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ بِنَحْوِ: اذْكُرْ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ، أَوْ يُقَدَّرُ لَهُ عَامِلٌ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ لِلظَّرْفِ، لِأَنَّ الظَّرْفَ إِذَا تَقَدَّمَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فِي إِعْطَائِهِ جَوَابًا. وَقَدْ حُذِفَ هَذَا الْعَامِلُ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ مِنَ التَّهْوِيلِ، تَقْدِيرُهُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ يَكُونُ هَوْلٌ عَظِيمٌ لَا يَبْلُغُهُ طُولُ التَّعْبِيرِ فَيَنْبَغِي طَيُّهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ