قالُوا لَا عِلْمَ لَنا ... إِلَخْ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ. وَأَصْلُ نَظْمِ الْكَلَامِ: يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ إِلَخْ. فَغَيَّرَ نَظْمَ الْكَلَامِ إِلَى الْأُسْلُوبِ الَّذِي وَقَعَ فِي الْآيَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، فَيَفْتَتِحُ بِهَذَا الظَّرْفِ الْمَهُولِ وَلِيُورِدَ الِاسْتِشْهَادَ فِي صُورَةِ الْمُقَاوَلَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَالرُّسُلِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ مَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [الْمَائِدَة: ١١٦] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَة: ١٠٨] لِأَنَّهُ لَا جَدْوَى فِي نَفْيِ الْهِدَايَةِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِأَنَّ جَزَالَةَ الْكَلَامِ تُنَاسِبُ اسْتِئْنَافَهُ، وَلِأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِهِ غَيْرُ وَاسِعِ الْمَعْنَى.
وَمِثْلُهُ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ [الْمَائِدَة: ١٠٨] عَلَى أَنَّ يَوْمَ
مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، وَقِيلَ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ [الْمَائِدَة: ١٠٨] لِأَنَّ جَمْعَ الرُّسُل ممّا يَشْمَل عَلَيْهِ شَأْنُ اللَّهِ، فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: مَاذَا أُجِبْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِشْهَادِ. يَنْتَقِلُ مِنْهُ إِلَى لَازِمِهِ، وَهُوَ تَوْبِيخُ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِي حَيَاتِهِمْ أَوْ بَدَّلُوا وَارْتَدُّوا بَعْدَ مَمَاتِهِمْ.
وَظَاهِرُ حَقِيقَةِ الْإِجَابَةِ أَنَّ الْمَعْنَى: مَاذَا أَجَابَكُمُ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ أُرْسِلْتُمْ إِلَيْهِمْ، أَيْ مَاذَا تَلَقَّوْا بِهِ دَعَوَاتِكُمْ، حَمْلًا عَلَى مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ [النَّمْل: ٥٦] . وَيُحْمَلُ قَوْلُ الرُّسُلِ: لَا عِلْمَ لَنا عَلَى مَعْنَى لَا عِلْمَ لَنَا بِمَا يُضْمِرُونَ حِينَ أَجَابُوا فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا. أَوْ هُوَ تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا أَجَابَتْ بِهِ الْأُمَمُ يُعلمهُ رسلهم فلابدّ مِنْ تَأْوِيلِ نَفْيِ الرُّسُلِ الْعِلْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَتَفْوِيضِهِمْ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْمَعْنَى. فَأَجْمَعَ الرُّسُلُ فِي الْجَوَابِ عَلَى تَفْوِيضِ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ أَنَّ عِلْمَكَ سُبْحَانَكَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ عِلْمٍ وَشَهَادَتَكَ أَعْدَلُ مِنْ كُلِّ شَهَادَةٍ، فَكَانَ جَوَابَ الرُّسُلِ مُتَضَمِّنًا أُمُورًا: أَحَدُهَا: الشَّهَادَةُ عَلَى الْكَافِرِينَ مِنْ أُمَمِهِمْ بِأَنَّ مَا عَامَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ هُوَ الْحَقُّ.
الثَّانِي: تَسْفِيهُ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ فِي إِنْكَارِهِمُ الَّذِي لَا يُجْدِيهِمْ. الثَّالِث: تَذْكِيرُ أُمَمِهِمْ بِمَا عَامَلُوا بِهِ رُسُلَهُمْ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، تَعْمِيمًا لِلتَّذْكِيرِ بِكُلِّ مَا صَدَرَ مِنْ أُمَمِهِمْ مِنْ تَكْذِيبٍ وَأَذًى وَعِنَادٍ. وَيُقَالُ لِمَنْ يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ لَا أَزِيدُكَ عِلْمًا بِذَلِكَ، أَوْ أَنْتَ تَعْرِفُ مَا جَرَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute