وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى تَخْصِيصِهِ بِالْخَبَرِ دُونَ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّ الْخَبَرَ حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ. فَقَوْلُ قَائِلِينَ: اتَّخِذُوا عِيسَى وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ، وَاقِعٌ. وَإِنَّمَا أُلْقِيَ الِاسْتِفْهَامُ لِعِيسَى أَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِالْإِرْهَابِ وَالْوَعِيدِ بتوجّه عُقُوبَة ذَلِك إِلَى مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ إِنْ تَنَصَّلَ مِنْهُ عِيسَى فَيَعْلَمُ أَحْبَارُهُمُ الَّذِينَ اخْتَرَعُوا هَذَا الْقَوْلَ أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ قَائِلُ ذَلِكَ فَلَا عُذْرَ لِمَنْ قَالَهُ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَقْوَالَ عِيسَى وَتَعَالِيمَهُ، فَلَوْ كَانَ هُوَ الْقَائِلُ لَقَالَ: اتَّخِذُونِي وَأُمِّي، وَلِذَلِكَ جَاءَ التَّعْبِيرُ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ فِي الْآيَةِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ أَهْلُ دِينِهِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ اتَّخِذُونِي، وَحَرْفُ مِنْ صِلَةٌ وَتَوْكِيدٌ. وَكَلِمَةُ دُونِ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُجَاوِزِ، وَيَكْثُرُ أَنْ يَكُونَ مَكَانًا مَجَازِيًّا مُرَادًا بِهِ الْمُغَايَرَةُ، فَتَكُونُ بِمَعْنَى (سِوَى) . وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً [الْمَائِدَة: ٧٦] . وَالْمَعْنَى اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ سِوَى اللَّهِ.
وَقَدْ شَاعَ هَذَا فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٦٥] ، وَقَالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ (١) وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨] ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي خُوطِبَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ مَعَ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ وَلَمْ يُنْكِرُوا إِلَهِيَّةَ اللَّهِ.
وَذَكَرَ هَذَا الْمُتَعَلِّقَ إِلْزَامًا لَهُمْ بِشَنَاعَةِ إِثْبَاتِ إِلَهِيَّةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ النَّصَارَى لَمَّا ادَّعَوْا حُلُولَ اللَّهِ فِي ذَاتِ عِيسَى تَوَزَّعَتِ الْإِلَهِيَّةُ وَبَطُلَتِ الْوَحْدَانِيَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْمَذْهَبِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٧] .
وَجَوَابُ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ: سُبْحانَكَ تَنْزِيهٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ مَضْمُونِ
(١) فِي المطبوعة: (مَا لَا يَنْفَعهُمْ وَلَا يضرهم) وَهُوَ خطأ، والمثبت هُوَ الْمُوَافق للمصحف.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute