تِلْكَ الْمَقَالَةِ. وَكَانَتِ الْمُبَادَرَةُ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى أَهَمَّ مِنْ تَبْرِئَتِهِ نَفْسَهُ، عَلَى أَنَّهَا مُقَدِّمَةٌ لِلتَّبَرِّي لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يُنَزِّهُ اللَّهَ عَنْ ذَلِكَ فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِهِ أَحَدًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سُبْحانَكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٢] .
وَبَرَّأَ نَفْسَهُ فَقَالَ: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ فَجُمْلَةُ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا جَوَابُ السُّؤَالِ. وَجُمْلَةُ سُبْحانَكَ تَمْهِيدٌ.
وَقَوْلُهُ: مَا يَكُونُ لِي مُبَالَغَةٌ فِي التَّبْرِئَةِ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ مَا يُوجَدُ لَدَيَّ قَوْلُ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: مَا يَكُونُ لِي لِلِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ مَا يُوجَدُ حَقٌّ أَنْ أَقُولَ. وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ لَمْ أَقُلْهُ لِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يُوجَدَ اسْتِحْقَاقُهُ ذَلِكَ الْقَوْلَ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِحَقٍّ زَائِدَةٌ فِي خَبَرِ لَيْسَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَيْسَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَيْسَ لِي بِحَقٍّ متعلّقة بِلَفْظ بِحَقٍّ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النُّحَاةِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمُتَعَلِّقِ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ الْمَجْرُورِ بِحَرْفِ الْجَرِّ. وَقُدِّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفُ لَغْو متعلّق بِحَقٍّ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ ظَرْفٌ مستقرّ صفة لحق حَتَّى يُفْهَمَ مِنْهُ أَنَّهُ نَفَى كَوْنَ ذَلِكَ حَقًّا لَهُ وَلَكِنَّهُ حَقٌّ لِغَيْرِهِ الَّذِينَ قَالُوهُ وَكَفَرُوا بِهِ، وَلِلْمُبَادَرَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَنَصُّلِهِ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ. وَقَدْ أَفَادَ الْكَلَامُ تَأْكِيدَ كَوْنِ ذَلِكَ لَيْسَ حَقًّا لَهُ بِطَرِيقِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ لِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يُبَاحَ لَهُ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَحِقُّ لَهُ، فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَقًّا لَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ لِأَجْلِ كَوْنِهِ كَذَلِكَ. فَهَذَا تَأْكِيدٌ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَالتَّفَنُّنِ.
ثُمَّ ارْتقى فِي التبرّي فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ وَحُجَّةٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَكَانَتْ كَالْبَيَانِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قُلْتُهُ عَائِدٌ إِلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ. وَنَصْبُ الْقَوْلِ لِلْمُفْرَدِ إِذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْجُمْلَةِ شَائِعٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠] ، فَاسْتَدَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ أَنْ يَقُولَهُ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ، فَلِذَلِكَ أَحَالَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَرَبِ: يَعْلَمُ اللَّهُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْ، كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَبَّادٍ:
لَمْ أكن من جناتعا عَلِمَ اللَّهُ وَأَنِّي لِحَرِّهَا الْيَوْمَ صَالِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute