فَهِيَ اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ جُمْلَةِ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً. خَصَّ هَذَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ نَفْيَ الشَّرِيكِ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ هُوَ أَصْلُ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَبَعْدَ أَنْ قَرَّرَهُمْ أَنَّ شَهَادَةَ اللَّهِ أَكْبَرُ شَهَادَةً وَأَشْهَدَ اللَّهَ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا بَلَّغَ، وَعَلَيْهِمْ فِيمَا أَعْرَضُوا وَكَابَرُوا اسْتَأْنَفَ اسْتِفْهَامًا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِنْكَارِ اسْتِقْصَاءً فِي الْإِعْذَارِ لَهُمْ فَقَالَ: أَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ عَلَى مَا أَصْرَرْتُمْ عَلَيْهِ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى كَمَا شَهِدْتُ أَنَا عَلَى مَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ، وَالْمُقَرَّرُ عَلَيْهِ هُنَا أَمْرٌ يُنْكِرُونَهُ بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ.
وَإِنَّمَا جَعَلَ الِاسْتِفْهَامَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي الْإِنْكَارِ عَنِ الْخَبَرِ الْمُوَكَّدِ بِ (إِنَّ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِيُفِيدَ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ هَذِهِ مِمَّا لَا يَكَادُ يُصَدِّقُ السَّامِعُونَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَهَا لِاسْتِبْعَادِ صُدُورِهَا مِنْ عُقَلَاءَ، فَيَحْتَاجُ الْمُخْبِرُ عَنْهُمْ بِهَا إِلَى تَأْكِيدِ خَبَرِهِ بِمُؤَكِّدَيْنِ فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ لَيَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، فَهُنَالِكَ يَحْتَاجُ مُخَاطِبُهُمْ بِالْإِنْكَارِ إِلَى إِدْخَالِ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُحْكَى بِهَا خَبَرُهُمْ، فَيُفِيدُ مِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ إِنْكَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا صَرِيحٌ بِأَدَاةِ الْإِنْكَارِ، وَالْآخَرُ كَنَائِيٌّ بِلَازِمِ تَأْكِيدِ الْإِخْبَارِ لِغَرَابَةِ هَذَا الزَّعْمِ بِحَيْثُ يَشُكُّ السَّامِعُ فِي صُدُورِهِ مِنْهُمْ.
وَمعنى لَتَشْهَدُونَ لتدّعونا دَعْوَى تُحَقِّقُونَهَا تَحْقِيقًا يُشْبِهُ الشَّهَادَةَ عَلَى أَمْرٍ مُحَقَّقِ الْوُقُوع، فإطلاق لَتَشْهَدُونَ مُشَاكَلَةٌ لِقَوْلِهِ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
وَالْآلِهَةُ جَمْعُ إِلَهٍ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ بِالتَّأْنِيثِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا لَا تَعْقِلُ فَإِنَّ جَمْعَ غَيْرِ الْعَاقِلِ يَكُونُ وَصْفُهُ كَوَصْفِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ.
وَقَوْلُهُ: قُلْ لَا أَشْهَدُ جَوَابٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي فِي قَوْله: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ لِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ: قُلْ أَإِنَّكُمْ، وَوَقَعَتِ الْمُبَادرَة بِالْجَوَابِ بتبرّي الْمُتَكَلِّمِ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ لِأَنَّ جَوَابَ الْمُخَاطَبِينَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ بَعْدَ سُؤَالِهِمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: دَعْنَا مِنْ شَهَادَتِكُمْ وَخُذُوا شَهَادَتِي فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ بِذَلِكَ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الْأَنْعَام: ١٥] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute