وَهَذِهِ الْآيَةُ أَحْسَنُ مَا يُمَثَّلُ بِهِ، لِمَجِيءِ الْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى إِفَادَةِ تَعْلِيلِ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنْ خَبَرٍ أَوْ إِنْشَاءٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعْرَاضِ حُدِّدَ بِغَايَةِ حُصُولِ ضِدِّ الصِّلَةِ. وَهِيَ أَيْضًا أَعْدَلُ شَاهِدٍ لِصِحَّةِ مَا فَسَّرَ بِهِ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحِ الْمِفْتَاحِ» قَوْلَ السَّكَّاكِيِّ (أَو أَن توميء بِذَلِكَ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ) بِأَنَّ وَجْهَ بِنَاءِ الْخَبَرِ هُوَ عِلَّتُهُ وَسَبَبُهُ، وَإِن أَبى التفتازانيّ ذَلِكَ التَّفْسِيرَ.
وَالْخَوْضُ حَقِيقَتُهُ الدُّخُولُ فِي الْمَاءِ مَشْيًا بِالرِّجْلَيْنِ دُونَ سِبَاحَةٍ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلتَّصَرُّفِ الَّذِي فِيهِ كُلْفَةٌ أَوْ عَنَتٌ، كَمَا اسْتُعِيرَ التَّعَسُّفُ وَهُوَ الْمَشْيُ فِي الرَّمْلِ لِذَلِكَ. وَاسْتُعِيرَ الْخَوْضُ أَيْضًا لِلْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ تُكَلُّفُ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لَهُ قَائِلُهُ، قَالَ الرَّاغِبُ:
وَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَرَدَ فِيمَا يُذَمُّ الشُّرُوعُ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: يَخُوضُونَ فِي آياتِنا، نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التَّوْبَة: ٦٥] ، وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التَّوْبَة: ٦٩] ، ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الْأَنْعَام: ٩١] . فَمَعْنَى يَخُوضُونَ فِي آياتِنا يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِالْبَاطِلِ وَالِاسْتِهْزَاءِ.
وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً وَحُكْمُ بَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَحُكْمِهِ، كَمَا قَالَ فِي ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٤٠] فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.
وَالْإِعْرَاضُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣] . وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ هُنَا هُوَ تَرْكُ الْجُلُوسِ إِلَى مَجَالِسِهِمْ، وَهُوَ مَجَازٌ قَرِيبٌ مِنَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعْرَاضُ الْحَقِيقِيُّ غَالِبًا، فَإِنْ هُمْ غَشَوْا مَجْلِسَ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ أَنْ يَقُومَ عَنْهُمْ وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: فَجَعَلَ إِذَا اسْتَهْزَأُوا قَامَ فَحُذِّرُوا وَقَالُوا لَا تستهزءوا فَيَقُومَ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِعْرَاضِ زَجْرُهُمْ وَقَطْعُ الْجِدَالِ مَعَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ عِنَادِهِمْ.
وحَتَّى غَايَةٌ لِلْإِعْرَاضِ لِأَنَّهُ إِعْرَاضُ فِيهِ تَوْقِيفُ دَعْوَتِهِمْ زَمَانًا أَوْجَبَهُ رَعْيُ مَصْلَحَةٍ أُخْرَى هِيَ مِنْ قَبِيلِ الدَّعْوَةِ فَلَا يَضُرُّ تَوْقِيفُ الدَّعْوَةِ زَمَانًا، فَإِذَا زَالَ مُوجِبُ ذَلِكَ عَادَتْ مُحَاوَلَةُ هديهم إِلَى أصلهم لِأَنَّهَا تَمَحَّضَتْ لِلْمَصْلَحَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute