للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ انْتِقَالِهِمْ إِلَى حَدِيثٍ آخَرَ بِالْخَوْضِ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَحَدَّثُونَ إِلَّا فِيمَا لَا جَدْوَى لَهُ مِنْ أَحْوَالِ الشِّرْكِ وَأُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ.

وغَيْرِهِ صِفَةٌ لِ حَدِيثٍ. وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْخَوْضِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَدِيثًا حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ وَصْفُ حَدِيثٍ بِأَنَّهُ غَيْرُهُ.

وَقَوْلُهُ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ عَطْفُ حَالَةِ النِّسْيَانِ زِيَادَةٌ فِي تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ. وَأَسْنَدَ الْإِنْسَاءَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَدَلَّنَا عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ آثَارِ الْخِلْقَةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا حظّا الْعلم الشَّيْطَانِ. كَمَا وَرَدَ أَنَّ التَّثَاؤُبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فِي أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فِي ذَلِكَ، فَالنِّسْيَانُ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الْجَائِزَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي غَيْرِ تَبْلِيغِ مَا أُمِرُوا بِتَبْلِيغِهِ، عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» : إِنَّ كِبَارَ الرَّافِضَةِ هُمُ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى تَنْزِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النِّسْيَانِ اهـ. وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَعُزِيَ إِلَى الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيِّ فِيمَا حَكَاهُ نُورُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحٍ لِلْقَصِيدَةِ النُّونِيَّةِ» لِشَيْخِهِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ. وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ مُرَادَهُ بِذَلِكَ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ كَمَا يَظْهَرُ مِمَّا حَكَاهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ نَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَنَسِيَ آيَاتٍ مِنْ بَعْضِ السُّوَرِ تَذَكَّرَهَا لَمَّا سَمِعَ قِرَاءَةَ رَجُلٍ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي»

فَذَلِكَ نِسْيَانُ اسْتِحْضَارِهَا بَعْدَ أَنْ بُلِّغَهَا. وَلَيْسَ نَظَرُنَا فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَظَرُنَا فِي إِسْنَادِ ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا لَهُ أَثَرٌ فِي نَفْسِ

الرَّسُولِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي يَجُوزُ طُرُوُّهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ مِنْ عَمَلِ الشَّيَاطِينِ، كَمَا جَعَلَ بَعْضَ الْأَعْرَاضِ مَوْكُولَةً لِلْمَلَائِكَةِ، وَيَكُونُ النِّسْيَانُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْرَاضِ الْمَوْكُولَةِ إِلَى الشَّيَاطِينِ كَمَا تَكَرَّرَ إِسْنَادُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا. وَهَذَا مِثْلُ كَوْنِ التَّثَاؤُبِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَكَوْنِ ذَاتِ الْجَنْبِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَقَدْ قَالَ أَيُّوبُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ [ص: ٤١] ، وَحِينَئِذٍ فَالْوَجْهُ أَنَّ الْأَعْرَاضَ الْبَشَرِيَّةَ الْجَائِزَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي لَا تُخِلُّ بِتَبْلِيغٍ وَلَا تُوقِعُ فِي الْمَعْصِيَةِ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا مِنْ أَثَرِ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.