وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خُصَّ مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ بِأَنْ لَا سُلْطَةَ لِعَمَلٍ شَيْطَانِيٍّ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْجَائِزَةِ عَلَى مَقَامِ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَعْرَاضِ مَا لَا أَثَرَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ. وَقَدْ يَدُلُّ لِهَذَا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ شَقِّ الصَّدْرِ: أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا اسْتَخْرَجَ الْعَلَقَةَ قَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، يَعْنِيَ مَرْكَزُ تَصَرُّفَاتِهِ، فَيَكُونُ الشَّيْطَانُ لَا يَتَوَصَّلُ إِلَى شَيْءٍ يَقَعُ فِي نَفْسِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِوَاسِطَةِ تَدْبِيرِ شَيْءٍ يَشْغَلُ النَّبِيءَ حَتَّى يَنْسَى مِثْلَ مَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» حِينَ نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَكَّلَ بِلَالًا بِأَنْ يَكْلَأَ لَهُمُ الْفَجْرَ، فَنَامَ بِلَالٌ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَإِنَّ النَّبِيءَ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ أَتَى بِلَالًا فَلَمْ يَزَلْ يُهَدِّئُهُ كَمَا يُهَدَّأُ الصَّبِيُّ حَتَّى نَامَ» .
فَأَمَّا نَوْمُ النَّبِيءِ وَالْمُسْلِمِينَ عَدَا بِلَالًا فَكَانَ نَوْمًا مُعْتَادًا لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ. وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَارَ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» . وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَخَرَجَ لِيَعْلَمَ النَّاسُ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ فَرُفِعَتْ. فَإِنَّ التَّلَاحِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَطِيعُ رَفْعَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِنَفْسِهِ فَوَسْوَسَ بِالتَّلَاحِي.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ الْوَسْوَسَةِ، وَأَمَّا مَا دُونَهَا مِثْلَ الْإِنْسَاءِ وَالنَّزْغِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُعْصَمَ مِنْهُ. وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: أَنَّ الْوَسْوَسَةَ آثَارُهَا وُجُودِيَّةٌ وَالْإِنْسَاءَ وَالنَّزْغَ آثَارُهُمَا عَدَمِيَّةٌ، وَهِيَ الذُّهُولُ وَالشَّغْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
فَالْمَعْنَى إِنْ أَنْسَاكَ الشَّيْطَانُ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ فَإِنْ تَذَكَّرْتَ فَلَا تَقْعُدْ مَعَهُمْ، فَهَذَا النِّسْيَانُ يَنْتَقِلُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ، وَمِنْ أُسْلُوبٍ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى أُسْلُوبٍ آخَرَ، فَلَيْسَ إِنْسَاءُ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِيقَاعًا فِي مَعْصِيَةٍ إِذْ لَا مَفْسَدَةَ فِي ارْتِكَابِ ذَلِكَ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ غَرَضٌ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ فِي الضَّلَالِ، وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ الْمُؤَاخَذَةَ بِالنِّسْيَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، أَيْ بَعْدَ أَنْ تَتَذَكَّرَ الْأَمْرَ بِالْإِعْرَاضِ. فَالذِّكْرَى اسْمٌ لِلتَّذَكُّرِ وَهُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ، فَهِيَ اسْمُ مَصْدَرٍ، أَيْ إِذَا أَغْفَلْتَ بَعْدَ هَذَا فَقَعَدْتَ إِلَيْهِمْ فَإِذَا
تَذَكَّرْتَ فَلَا تَقْعُدْ، وَهُوَ ضِدُّ فَأَعْرِضْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُنْسِيَنَّكَ- بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ- مِنَ التَّنْسِيَةِ، وَهِيَ مُبَالَغَةٌ فِي أَنْسَاهُ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ تَأَوَّلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute