للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْمُحَاجَّةُ مُفَاعَلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ مِنَ الْحُجَّةِ، وَهِيَ الدَّلِيلُ الْمُؤَيِّدُ لِلدَّعْوَى. وَلَا يُعْرَفُ لِهَذِهِ الْمُفَاعَلَةِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ بِمَعْنَى اسْتَدَلَّ بِحُجَّةٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ فِعْلُ حَجَّ إِذَا غَلَبَ فِي الْحُجَّةِ، فَإِنْ كَانَتِ احْتِجَاجًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَهِيَ حَقِيقَةٌ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مُحَاوِلَ الْغَلَبِ فِي الْحُجَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَلَقَّى مِنْ خَصْمِهِ مَا يَرُدُّ احْتِجَاجَهُ فَتَحْصُلُ الْمُحَاوَلَةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ أُطْلِقَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ مُحَاجَّةٌ، أَوِ الْمُفَاعَلَةُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالْأَوْلَى حَمْلُهَا هُنَا عَلَى الْحَقِيقَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى حُصُولَ مُحَاجَّةٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ.

وَذَكَرَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي دَرْسِ تَفْسِيرِهِ: أَنَّ صِيغَةَ الْمُفَاعَلَةِ تَقْتَضِي أَنَّ الْمَجْعُولَ فِيهَا

فَاعِلًا هُوَ الْبَادِئُ بِالْمُحَاجَّةِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ اسْتَشْكَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٨] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ حَيْثُ قَالَ: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [الْبَقَرَة: ٢٥٨] . فَبَدَأَ بِكَلَامِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ مَفْعُولُ الْفِعْلِ وَأَجَابَ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَدَأَ بِالْمُقَاوَلَةِ وَنُمْرُوذَ بَدَأَ الْمُحَاجَّةَ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ هَذَا الْقَيْدَ فِي اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُمْ سَلَكُوا مَعَهُ طَرِيقَ الْحُجَّةِ عَلَى صِحَّةِ دِينِهِمْ أَوْ عَلَى إِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ، فَجَعَلَ سَمَاعَهُ كَلَامَهُمْ بِمَنْزِلَةِ جَوَابٍ مِنْهُ فَأَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ كَلِمَةَ الْمُحَاجَّةِ. وَأَبْهَمَ احْتِجَاجَهُمْ هُنَا إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ لِأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ الِاعْتِبَارُ بِثَبَاتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الْحَقِّ. وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِ حاجَّهُ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، وَدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ:

أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ الْآيَاتِ.

وَقَدْ ذُكِرَتْ حُجَجُهُمْ فِي مَوَاضِع فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٥٢- ٥٦] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٧٢، ٧٣] قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ الْآيَاتِ، وَفِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٨٥- ٩٨] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ وَكُلُّهَا مُحَاجَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَيَدْخُلُ فِي الْمُحَاجَّةِ مَا لَيْسَ