وَوَجْهُ بِنَاءِ فِعْلِ عُلِّمْتُمْ لِلْمَجْهُولِ ظُهُورُ الْفَاعِلِ، وَلِأَنَّهُ سَيَقُولُ قُلِ اللَّهُ.
فَإِذَا تَأَوَّلْنَا الْآيَةَ بِمَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَالِاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ تَقْرِيرِيٌّ، إِمَّا لِإِبْطَالِ ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ مَنْ جَحَدَ تَنْزِيلَ كِتَابٍ عَلَى بَشَرٍ، عَلَى طَرِيقَةِ إِفْحَامِ الْمُنَاظِرِ بِإِبْدَاءِ مَا فِي كَلَامِهِ مِنْ لَوَازِمِ الْفَسَادِ، مِثْلُ فَسَادِ اطِّرَادِ التَّعْرِيفِ أَوِ انْعِكَاسِهِ، وَإِمَّا لِإِبْطَالِ مَقْصُودِهِمْ مِنْ إِنْكَارِ رِسَالَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقَةِ الْإِلْزَامِ لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا أَنَّ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَالشَّيْءِ الْمُحَالِ فَقِيلَ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى وَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُ، فَإِذَا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ فَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَى مُوسَى كِتَابًا لِمَ لَا يُنَزِّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ مِثْلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاء: ٥٤] الْآيَةَ.
ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ قِرَاءَةُ: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ بِالْفَوْقِيَّةِ جَارِيَةً عَلَى الظَّاهِر، وقراءته بالتّحتيّة مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ. وَنُكْتَتُهُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِهَذَا الْفِعْلِ الشَّنِيعِ جُعِلُوا كَالْغَائِبِينَ عَنْ مَقَامِ الْخِطَابِ.
وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: وَعُلِّمْتُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُمُ الْيَهُودُ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ تَجْعَلُونَهُ، أَيْ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُخْفُونَ بَعْضَهَا فِي حَالِ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَكُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْمُعْتَرِضِ بِهِ.
وَيَجِيءُ عَلَى قِرَاءَةِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ- بِالتَّحْتِيَّةِ- أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ إِلَى الْخِطَابِ بَعْدَ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتًا أَيْضًا. وَحُسْنُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِشَيْءٍ حَسَنٍ عَادَ إِلَى مَقَامِ الْخِطَابِ، أَوْ لِأَنَّ مَقَامَ الْخِطَابِ أَنْسَبُ بِالِامْتِنَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ نَظْمَ الْآيَةِ صَالِحٌ لِلرَّدِّ عَلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مُرَاعَاةً لِمُقْتَضَى الرِّوَايَتَيْنِ. فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَوَاوُ الْجَمَاعَةِ فِي «قَدَرُوا- وَقَالُوا» عَائِدَةٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ إِشَارَةُ هَؤُلَاءِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَالْوَاوُ وَاوُ الْجَمَاعَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ عَلَى طَرِيقَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute