وَقَالَ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ [النَّحْل: ٥- ٧] الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْتَرِشُونَ جُلُودَ الْغَنَمِ وَالْمَعْزِ لِلْجُلُوسِ عَلَيْهَا.
وَلَفْظُ فَرْشاً صَالِحٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا، وَمَحَامِلُهُ كُلُّهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْمَقَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً مِنَ الْآيَةِ، وَكَأَنَّ لَفْظَ الْفَرْشِ لَا يُوَازِنُهُ غَيْرُهُ فِي جَمْعِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَهَذَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ جَانِبِ فَصَاحَتِهِ، فَالْحَمُولَةُ الْإِبِلُ خَاصَّةً، وَالْفَرْشُ يَكُونُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِي اسْمِ الْفَرْشِ الصَّالِحَةِ لِكُلِّ نَوْعٍ مَعَ ضَمِيمَتِهِ إِلَى كَلِمَةِ (مِنَ) الصَّالِحَةِ لِلِابْتِدَاءِ.
فَالْمَعْنَى: وَأَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ مَا تَحْمِلُونَ عَلَيْهِ وَتَرْكَبُونَهُ، وَهُوَ الْإِبِلُ الْكَبِيرَةُ وَالْإِبِلُ الصَّغِيرَةُ، وَمَا تَأْكُلُونَهُ وَهُوَ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَمَا هُوَ فَرْشٌ لَكُمْ وَهُوَ مَا يُجَزُّ مِنْهَا، وَجُلُودُهَا.
وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْشَأَ حَمُولَةً وَفَرْشًا مِنَ الْأَنْعَامِ فقد أنشأ الْأَنْعَام أَيْضا، وَأول مَا يتَبَادَر للنّاس حِين ذكر الْأَنْعَام أَنْ يَتَذَكَّرُوا أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْهَا، فَحَصَلَ إِيجَازٌ فِي الْكَلَامِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.
وَجُمْلَةُ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ مِثْلُ آيَةِ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ [الْأَنْعَام:
١٤١] . وَمُنَاسَبَةُ الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْعَامِ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَفَرْشاً شَيْئًا مُلَائِمًا لِلذَّبْحِ، كَمَا تَقَدَّمَ، عَقَّبَ بِالْإِذْنِ بِأَكْلِ مَا يَصْلُحُ لِلْأَكْلِ مِنْهَا. وَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ السِّيَاقِ إِبْطَالًا لِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَالْأَمْرُ بِالْأَكْلِ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ وَهُوَ عَدَمُ الْأَكْلِ مِنْ بَعْضِهَا، أَيْ لَا تُحَرِّمُوا مَا أُحِلَّ لَكُمْ مِنْهَا اتِّبَاعًا لِتَغْرِيرِ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ لِزُعَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمْ تِلْكَ السُّنَنِ الْبَاطِلَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْإِبَاحَةَ فَقَطْ.
وَعَدَلَ عَنِ الضّمير بِأَن يَقُول: كُلُوا مِنْهَا: إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute