الِاعْتِقَادُ بِلَا مُوجِبٍ كَيْفَ وَالدِّينُ هُوَ هُوَ، وَلَمَّا أُرِيدَ نَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ كَانَ نَفْيُهُ فِي الْمَاضِي لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَحَقُّقِهِ فِي الْحَالِ بَلْهَ الِاسْتِقْبَالِ فَكَانَ قَوْلُهُ: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ دَالًّا عَلَى انْتِفَائِهِ عَنْهُمْ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ حَقِيقَةٌ فِي زَمَنِ الْحَالِ وَذَلِكَ النَّفْيُ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَهُ فِي الْمَاضِي بِالْأَوْلَى، وَلِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ تَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْفِعْلِ دُونَ الْفَاعِلِ فَلِذَلِكَ حَكَى بِهَا كَلَامَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ يَتَطَلَّبُونَ مَعْرِفَةَ حُصُولِ إِيمَانِهِمْ قَالُوا آمَنَّا، وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْفَاعِلِ أَيْ أَنَّ الْقَائِلِينَ آمَنَّا لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ إِيمَانٌ فَالِاهْتِمَامُ بِهِمْ فِي الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ تَسْجِيلٌ لِكَذِبِهِمْ وَهَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الْفُرُوقِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْفِعْلِيَّةِ وَالِاسْمِيَّةِ وَهُوَ مُصَدَّقٌ بِقَاعِدَةِ إِفَادَةِ التَّقْدِيمِ الِاهْتِمَامَ مُطْلَقًا وَإِنْ أَهْمَلُوا التَّنْبِيهَ عَلَى جَرَيَانِ تِلْكَ الْقَاعِدَة عِنْد مَا ذَكَرُوا الْفُرُوقَ بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَالِاسْمِيَّةِ فِي كُتُبِ الْمَعَانِي وَأَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هُنَا بِكَلَامٍ دَقِيقِ الدَّلَالَةِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَانَ عَبَدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَزَعَمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الْقُرْآنَ وَأَنَّهُ كَانَ يُمْلِي عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَثَلًا فَيَكْتُبُهَا غَفُورٌ رَحِيمٌ مَثَلًا وَالْعَكْسُ وَهَذَا مِنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدُ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِنْ نَقْلِ الْمُؤَرِّخِينَ وَهُمْ لَا يُعْتَدُّ بِكَلَامِهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا الشَّأْنِ لَا سِيَّمَا وَوِلَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ ابْن أَبِي سَرْحٍ الْإِمَارَةَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نَقَمَهُ الثُّوَّارُ عَلَى عُثْمَانَ وَتَحَامُلُ الْمُؤَرِّخِينَ فِيهَا مَعْلُومٌ لِأَنَّهُمْ تَلَقَّوْهَا مِنَ النَّاقِمِينَ وَأَشْيَاعِهِمْ، وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ تَنْفِي هَذَا لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَلَزِمَ عَلَيْهِ دُخُولُ الشَّكِّ فِي الدِّينِ وَلَوْ حَاوَلَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا لَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الرَّسُولِ السَّهْوُ وَالْغَفْلَةُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّبْلِيغِ عَلَى أَنَّهُ مُزَيَّفٌ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ إِذْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَكِيدَ لِلدِّينِ لَكَانَ الْأَجْدَرُ بِهِ تَحْرِيفَ غَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ هَذَا كَلَامٌ قَالَهُ فِي وَقْتِ ارْتِدَادِهِ وَقَوْلُهُ حِينَئِذٍ فِي الدِّينِ غَيْرُ مُصَدَّقٍ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِقَصْدِ تَرْوِيجِ رِدَّتِهِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ وَقَدْ عَلِمْتَ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِ حُفَّاظِهِ وَقِرَاءَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَأْمُرُ بِكِتَابَتِهِ لِقَصْدِ الْمُرَاجَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ أَنَّهُ وَقَعَ الِاحْتِيَاجُ إِلَى مُرَاجَعَةِ مَا كُتِبَ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ حُفَّاظَ الْقُرْآنِ وَجَدُوا خِلَافًا بَيْنَ مَحْفُوظِهِمْ وَبَيْنَ الْأُصُولِ الْمَكْتُوبَةِ، عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي سَرْحٍ لَمْ يَكُنْ مُنْفَرِدًا بِكِتَابَةِ الْوَحْيِ فَقَدْ كَانَ يَكْتُبُ مَعَهُ آخَرُونَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute