فِي الْأَمْكِنَةِ إِذَا قِيلَ لَا تَقْرَبْ مِنْهَا فُهِمُ النَّهْيُ عَنِ الْقُرْبِ مِنْهَا لِيَكُونَ النَّهْيُ عَنْ مُلَابَسَتِهَا بِالْأَحْرَى، فَلَمَّا تَعَذَّرَ الْمَعْنَى الْمُطَابِقِيُّ هُنَا تَعَيَّنَتْ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الِالْتِزَامِيِّ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ.
وَالْفَوَاحِشُ: الْآثَامُ الْكَبِيرَةُ، وَهِيَ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مَفَاسِدَ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٩] .
وَمَا ظَهَرَ مِنْها مَا يُظْهِرُونَهُ وَلَا يَسْتَخْفُونَ بِهِ، مِثْلُ الْغَضَبِ وَالْقَذْفِ. وَما بَطَنَ مَا يَسْتَخْفُونَ بِهِ وَأَكْثَرُهُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَكَانَا فَاشِيَيْنِ فِي الْعَرَبِ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ الْفَوَاحِشَ بِالزِّنَا، وَجَعَلَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا مَا يَفْعَلُهُ سُفَهَاؤُهُمْ فِي الْحَوَانِيتِ وَدِيَارِ الْبَغَايَا، وَبِمَا بَطَنَ اتِّخَاذَ الْأَخْدَانِ سِرًّا، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ السُّدِّيِّ. وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ وَابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَرَوْنَ الزِّنَا سِرًّا حَلَالًا، وَيَسْتَقْبِحُونَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَحَرَّمَ اللَّهُ الزِّنَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَعِنْدِي أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي الْفَوَاحِشِ تُرَجِّحُ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النَّجْم: ٣٢] .
وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى تَفْسِيرِ الْفَوَاحِشِ بِالزِّنَى قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٣٢] فِي آيَاتٍ
عدّدت منهيات كَثِيرَة تُشَابِهُ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْمُتَمَاثِلَةِ وَاحِدًا.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي: مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٢٠] .
وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ، وَهُوَ مِنَ الْفَوَاحِشِ عَلَى تَفْسِيرِهَا بِالْأَعَمِّ، تَخْصِيصًا لَهُ بِالذِّكْرِ: لِأَنَّهُ فَسَادٌ عَظِيمٌ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مُتَفَشِّيًا بَيْنَ الْعَرَبِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّفْسِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَيُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute