وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُوهُ لِلْمُشْرِكِينَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا.
وَجُمْلَةُ: أَنْزَلْناهُ فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ لِ كِتابٌ، وَ (مُبَارَكٌ) صِفَةٌ ثَانِيَةٌ، وَهُمَا الْمَقْصِدُ مِنِ الْإِخْبَارِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ كِتَابًا لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا امْتَرَوْا فِي كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَفِي كَوْنِهِ مُبَارَكًا. وَحَسُنَ عَطْفُ: مُبارَكٌ عَلَى: أَنْزَلْناهُ لِأَنَّ اسْمَ الْمَفْعُولِ- لِاشْتِقَاقِهِ- هُوَ فِي قُوَّةِ الْفِعْلِ. وَمَعْنَى: اتَّقُوا كُونُوا مُتَّصِفِينَ بِالتَّقْوَى وَهِيَ الْأَخْذُ بِدِينِ الْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَعْدٌ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَتَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ.
وَقَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِفِعْلِ أَنْزَلْناهُ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةً عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَذْفِهَا مَعَ (أَنْ) . وَالتَّقْدِيرُ: لِأَنْ تَقُولُوا، أَيْ لِقَوْلِكُمْ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ لِمُلَاحَظَةِ قَوْلِكُمْ وَتَوَقُّعِ وُقُوعِهِ، فَالْقَوْلُ بَاعِثٌ عَلَى إِنْزَالِ الْكِتَابِ.
وَالْمَقَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ بَاعِثًا عَلَى إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْعِلَّةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى شَيْءٍ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً غَائِيَّةً، فَهَذَا الْمَعْنَى فِي اللَّامِ عَكْسُ مَعْنَى لَام الْعَاقِبَة، ويؤول الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ فِيهِ حِكَمٌ مِنْهَا حِكْمَةُ قَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْزِلْ إِلَيْهِمْ كِتَابٌ، أَوْ كَرَاهِيَةُ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، أَوْ لِتَجَنُّبِ أَنْ يَقُولُوهُ، وَذَلِكَ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ إِيثَارًا
لِلْإِيجَازِ فَلِذَلِكَ يُقَدَّرُ مُضَافٌ مِثْلَ: كَرَاهِيَةَ أَوْ تَجَنُّبَ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ جَرَى نُحَاةُ الْبَصْرَةِ.
وَذَهَبَ نُحَاةُ الْكُوفَةِ إِلَى أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ (لَا) النَّافِيَةِ، فَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: أَنْ لَا تَقُولُوا، وَالْمَآلُ وَاحِدٌ وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاء: ١٧٦]- وَقَوْلِهِ:
- وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: ٥٥، ٥٦]-
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute