وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى عَامِلِهِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الشَّرْطِ فَلِذَلِكَ اسْتُحِقَّ التَّقْدِيمُ فَإِنَّ الْمَجْرُورَ إِذَا قُدِّمَ قَدْ يُفِيدُ مَعْنًى قَرِيبًا مِنَ الشَّرْطِيَّةِ، كَمَا فِي
قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ»
وَفِي رِوَايَةٍ جَزَمَ تَكُونُوا مَعَ عَدَمِ مُعَامَلَةِ عَامِلِهِ مُعَامَلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ بِعَلَامَةِ الْجَزْمِ فَلَمْ يُرْوَ «يُوَلَّى» إِلَّا بِالْأَلْفِ فِي آخِرِهِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْجَزْمِ. وَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْمُتَعَلِّقِ، إِذْ كَانَ هُوَ السَّبَبُ فِي حُصُولِ الْمُتَعَلَّقِ بِهِ، فَالتَّقْدِيمُ لِلِاهْتِمَامِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا التّقديم منافيا لِتَصْدِيرِ لَامِ الْقَسَمِ فِي جُمْلَتِهَا، عَلَى أَنَّا لَا نَلْتَزِمُ ذَلِكَ فَقَدْ خُولِفَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْقعُود عَن كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلَازَمَةِ
كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
قُعُودًا لَدَى أَبْيَاتِهِمْ يَثْمِدُونَهُمْ ... رَمَى اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَكُفِّ الْكَوَانِعِ
أَيْ مُلَازِمِينَ أبياتا لغَيرهم يرد الْجُلُوسَ، إِذْ قَدْ يَكُونُونَ يَسْأَلُونَ وَاقِفِينَ، وَمَاشِينَ، وَوَجْهُ الْكِنَايَةِ هُوَ أَنَّ مُلَازَمَةَ الْمَكَانِ تَسْتَلْزِمُ الْإِعْيَاءَ مِنَ الْوُقُوفِ عِنْدَهُ، فَيَقْعُدُ الْمُلَازِمُ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ، وَمِنْ ثَمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمُسْتَجِيرِ اسْمُ الْقَعِيدِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْقَعِيدِ عَلَى الْمُلَازِمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: ١٧] أَيْ مُلَازِمٍ إِذِ الْمَلَكُ لَا يُوصَفُ بِقُعُودٍ وَلَا قِيَامٍ.
وَلَمَّا ضُمِّنَ فِعْلُ: لَأَقْعُدَنَّ مَعْنَى الْمُلَازَمَةِ انْتَصَبَ صِراطَكَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ تَضَمَّنَهُ مَعْنَى لَأَقْعُدَنَّ تَقْدِيرُهُ: فَامْنَعَنَّ صِرَاطَكَ أَوْ فَأَقْطَعَنَّ عَنْهُمْ صِرَاطَكَ، وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلْأَجَلِ كَقَوْلِهِ: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التَّوْبَة: ٥] .
وَإِضَافَةُ الصِّرَاطِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ على تَقْدِير اللّام أَيِ الصِّرَاطِ الَّذِي هُوَ لَكَ أَيِ الَّذِي جَعَلْتُهُ طَرِيقًا لَكَ، وَالطَّرِيقُ لِلَّهِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَا يُرْضِي اللَّهَ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَهُوَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكُ السَّيِّئَاتِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلُ هَيْئَةِ الْعَازِمِينَ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَعَزْمِهِمْ عَلَيْهِ، وَتَعَرَّضَ الشَّيْطَانُ لَهُمْ بِالْمَنْعِ مِنْ فِعْلِهِ، بِهَيْئَةِ السَّاعِي فِي طَرِيقٍ إِلَى مَقْصِدٍ يَنْفَعُهُ وَسَعْيِهِ إِذَا اعْتَرَضَهُ فِي طَرِيقِهِ قَاطِعُ طَرِيقٍ مَنَعَهُ مِنَ الْمُرُورِ فِيهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute