وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ ضَمِيرُ الْإِنْسِ الَّذِينَ دَلَّ عَلَيْهِمْ مَقَامُ الْمُحَاوَرَةِ، الَّتِي اخْتُصِرَتْ هُنَا اخْتِصَارًا دَعَا إِلَيْهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَهُوَ الِامْتِنَانُ بِنِعْمَةِ الْخَلْقِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ كَيْدِ عَدُوِّ الْجِنْسِ، فَتَفْصِيلُ الْمُحَاوَرَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ خَاطَبَ أَهْلَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِأَنَّهُ خَلَقَهُ لِيَعْمُرَ بِهِ وَبِنَسْلِهِ الْأَرْضَ، كَمَا أَنْبَأَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠] فَالْأَرْضُ مَخْلُوقَةٌ يَوْمَئِذٍ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ لِيَعْمُرَهَا بِذَرِّيَّتِهِ وَعَلِمَ إِبْلِيسُ ذَلِكَ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ فَحَكَى اللَّهُ مِنْ كَلَامِهِ مَا بِهِ الْحَاجَّةُ هَنَا: وَهُوَ قَوْلُهُ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ الْآيَةَ وَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ سُورَةِ الْحِجْرِ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ ذَكَرَ فِي مُحَاوَرَتِهِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ إِغْوَاءَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الْحجر: ٣٩، ٤٠] فَإِنْ كَانَ آدَمُ قَدْ خُلِقَ فِي الْجَنَّةِ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ فَإِنَّ عِلْمَ إِبْلِيسَ بِأَنَّ آدَمَ يَصِيرُ إِلَى الْأَرْضِ قَدْ حَصَلَ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يَجْعَلَهُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فَعَلِمَ أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ حِينٍ، وَإِنْ كَانَ آدَمُ قَدْ خُلِقَ فِي جَنَّةٍ
مِنْ جَنَّاتِ الْأَرْضِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَهَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْبَشَرَ لِلصَّلَاحِ وَالنَّفْعِ، وَأَنَّهُ أَوْدَعَ فِيهِمْ مَعْرِفَةَ الْكَمَالِ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى بُلُوغِهِ بِالْإِرْشَادِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَعْمَالُ الْخَيْرِ، فِي حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْلِيسَ، صراطا مُسْتَقِيمًا، وأضافه إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ دَعَا إِلَيْهِ وَارِد مِنَ النَّاسِ سُلُوكَهُ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا أَلْزَمَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثمَّ لآتيناهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ.
وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ إِبْلِيسُ عَدُوًّا لِبَنِي آدَمَ، لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُمْ مَا لَمْ يُخْلَقُوا لِأَجْلِهِ وَمَا هُوَ مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْبَشَرَ، فَالْعَدَاوَةُ مُتَأَصِّلَةٌ وَجِبِلِّيَّةٌ بَيْنَ طَبْعِ الشَّيْطَانِ وَفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ السَّالِمَةِ مِنَ التَّغْيِيرِ، وَذَلِكَ مَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْجَعْلُ الْإِلَهِيُّ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الْبَقَرَة: ٣٦] ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute