للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَلَيْسَتِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَيا آدَمُ اسْكُنْ بِعَاطِفَةٍ عَلَى أَفْعَالِ الْقَوْلِ الَّتِي قَبْلَهَا حَتَّى يَكُونَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ، لأنّ ذَلِك يفيت النُّكَتَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَذَلِكَ فِي حَضْرَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ فِيهَا آدَمُ وَالْمَلَائِكَةُ وَإِبْلِيسُ حُضُورًا.

وَفِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ لِآدَمَ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ بِحُضُورِ إِبْلِيسَ بَعْدَ طَرْدِهِ زِيَادَةُ إِهَانَةٍ، لِأَنَّ إِعْطَاءَ النِّعَمِ لِمَرْضِيٍّ عَلَيْهِ فِي حِينِ عِقَابِ مَنِ اسْتَأْهَلَ الْعِقَابَ زِيَادَةُ حَسْرَةٍ على المعاقب، وإظهارا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّ الْإِنْعَامِ وَمُسْتَحِقِّ الْعُقُوبَةِ فَلَا يُفِيدُ الْكَلَامُ مِنَ الْمَعَانِي مَا أَفَادَهُ الْعَطْفُ عَلَى الْمَقُولِ الْمَحْكِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَأُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ آدَمُ خُلِقَ فِي الْجَنَّةِ، فَكَانَ مُسْتَقِرًّا بِهَا مِنْ قَبْلُ، فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: اسْكُنْ إِنَّمَا هُوَ أَمْرُ تَقْرِيرٍ: أَيِ ابْقَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ آدَمُ قَدْ خُلِقَ خَارِجَ الْجَنَّةِ فَالْأَمْرُ لِلْإِذْنِ تَكْرِيمًا لَهُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَفِي هَذَا الْأَمْرِ، بِمَسْمَعٍ مِنْ إِبْلِيسَ، مَقْمَعَةٌ لِإِبْلِيسَ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِبْلِيسُ مُسْتَقِرًّا فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَبْلُ فَالْقَمْعُ ظَاهِرٌ إِذْ أَطْرَدَهُ اللَّهُ وَأَسْكَنَ الَّذِي تَكَبَّرَ هُوَ عَنِ السُّجُودِ إِلَيْهِ فِي الْمَكَانِ الْمُشَرَّفِ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ تَكَبُّرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ سَاكِنًا فِي الْجَنَّةِ قَبْلُ فَإِكْرَامُ الَّذِي احْتَقَرَهُ وَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ قَمْعٌ لَهُ، فَقَدْ دَلَّ مَوْقِعُ هَذَا الْكَلَامِ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ، عَلَى مَعْنًى عَظِيمٍ مِنْ قَمْعِ إِبْلِيسَ، زَائِدٍ عَلَى مَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَإِنْ كَانَتَا مُتَمَاثِلَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْبَدِيعَ اسْتُفِيدَ مِنَ الْمَوْقِعِ وَهَذَا مِنْ بَدَائِعِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.

وَوُجِدَ إِيثَارُ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَسُوقٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَأَمَّا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهُ لِمَوْعِظَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ

مِمَّنْ يَحْذَرُ الشَّيْطَانَ وَلَا يَتَّبِعُ خُطُوَاتِهِ.

وَالنِّدَاءُ لِلْإِقْبَالِ عَلَى آدَمَ وَالتَّنْوِيهِ بِذِكْرِهِ فِي ذَلِكَ الْمَلَأِ. وَالْإِتْيَانُ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ بَعْدَ الْأَمْرِ، لِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّنْكِيلِ بِإِبْلِيسَ لِأَنَّ ذِكْرَ ضَمِيرِهِ فِي مَقَامِ الْعَطْفِ يُذَكِّرُ غَيْرَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ، إِذِ الضَّمِيرُ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ اللَّقَبِ وَلَيْسَ لَهُ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ فَإِنَّهُ قَدْ يُفِيدُ الِاحْتِرَازَ عَنْ غَيْرِ صَاحِبِ الضَّمِيرِ بِالْقَرِينَةِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الضَّمِيرِ كَوْنُ إِظْهَارِهِ لِأَجْلِ تَحْسِينِ أَوْ تَصْحِيحِ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُسْتَتِرِ، لِأَنَّ