للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ عَلَى بُعْدِ حَالِهِمُ السَّالِفَةِ عَنِ الِاهْتِدَاءِ، كَمَا أَفَادَهُ نَفْيُ الْكَوْنِ مَعَ لَامِ الْجُحُودِ، حَسَبَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ والنبوءة الْآيَةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٩] ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُنْغَمِسِينَ فِي ضَلَالَاتٍ قَدِيمَةٍ قَدْ رَسَخَتْ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَمَّا قَادَتُهُمْ فَقَدْ زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لَهُمْ حَتَّى اعْتَقَدُوهَا وَسَنُّوهَا لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَمَّا دَهْمَاؤُهُمْ وَأَخْلَافُهُمْ فَقَدْ رَأَوْا قُدْوَتَهُمْ عَلَى تِلْكَ الضَّلَالَاتِ. وَتَأَصَّلَتْ فِيهِمْ، فَمَا كَانَ مِنَ السَّهْلِ اهْتِدَاؤُهُمْ، لَوْلَا أَنْ هَدَاهُمُ اللَّهُ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ وَسِيَاسَتِهِمْ فِي دَعْوَتِهِمْ، وَأَنْ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ قَبُولَ الدَّعْوَةِ.

وَلِذَلِكَ عَقَّبُوا تَحْمِيدَهُمْ وَثَنَاءَهُمْ عَلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَتِلْكَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنِفَةٌ، اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، لِصُدُورِهَا عَنِ ابْتِهَاجِ نُفُوسِهِمْ وَاغْتِبَاطِهِمْ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، فَجَعَلُوا يَتَذَكَّرُونَ أَسْبَابَ هِدَايَتِهِمْ وَيَعْتَبِرُونَ بِذَلِكَ وَيَغْتَبِطُونَ. تَلَذُّذًا بِالتَّكَلُّمِ بِهِ، لِأَنَّ تَذَكُّرَ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ وَالْحَدِيثَ عَنْهُ مِمَّا تَلَذُّ بِهِ النُّفُوسُ، مَعَ قَصْدِ الثَّنَاءِ عَلَى الرُّسُلِ.

وَتَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَبِقَدْ، مَعَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُنْكِرِينَ لِمَجِيءِ الرُّسُلِ: إِمَّا لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْجَابِ بِمُطَابَقَةِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ النَّعِيمِ لِمَا وَجَدُوهُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: ٧١]

وَقَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بِشْرٍ»

. وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ هَذَا الثَّنَاءَ عَلَى الرُّسُلِ والشّهادة بصدقهم جمعا مَعَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، فَأَتَوْا بِالْخَبَرِ فِي صُورَةِ الشَّهَادَةِ الْمُؤَكَّدَةِ الَّتِي لَا تَرَدُّدَ فِيهَا.

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ- بِدُونِ وَاوٍ قَبْلَ (مَا) - وَكَذَلِكَ كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الْمُوَجَّهِ إِلَى الشَّامِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً عَنِ الَّتِي

قَبْلَهَا، عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِهَا كَالتَّعْلِيلِ لِلْحَمْدِ، وَالتَّنْوِيهِ بِأَنَّهُ حَمْدٌ عَظِيمٌ عَلَى نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.