إِصْلَاحٌ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِيجَادُ الشَّيْءِ صَالِحًا، وَالَثَانِي جَعْلُ الضَّارِّ صَالِحًا بِالتَّهْذِيبِ أَوْ بِالْإِزَالَةِ، وَقَدْ مَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١] ، أَنَّ الْإِصْلَاحَ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ إِيجَادِ الشَّيْءِ صَالِحًا وَبَيْنَ جَعْلِ الْفَاسِدِ صَالِحًا. فَالْإِصْلَاحُ هُنَا مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى الِاسْمِ الْجَامِدِ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ إِصْلَاحٌ حَاصِلٌ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ لَا إِصْلَاحٌ هُوَ بِصَدَدِ الْحُصُولِ، فَإِذَا غُيِّرَ ذَلِكَ النِّظَامُ فَأُفْسِدَ الصَّالِحُ، وَاسْتُعْمِلَ الضَّارُّ عَلَى ضُرِّهِ، أَوِ اسْتُبِقِيَ مَعَ إِمْكَانِ إِزَالَتِهِ، كَانَ إِفْسَادًا بَعْدَ إِصْلَاحٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ [الْأَنْفَال: ٧٣] .
وَالتَّصْرِيحُ بِالْبَعْدِيَّةِ هُنَا تَسْجِيلٌ لِفَظَاعَةِ الْإِفْسَادِ بِأَنَّهُ إِفْسَادٌ لِمَا هُوَ حَسَنٌ وَنَافِعٌ، فَلَا مَعْذِرَةَ لِفَاعِلِهِ وَلَا مَسَاغَ لِفِعْلِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَرْضِ.
وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
عَوْدٌ إِلَى أَمْرِ الدُّعَاءِ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِفْسَادِ أَشْبَهَ الِاحْتِرَاسَ الْمُعْتَرِضَ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ، وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: خَوْفاً وَطَمَعاً قَصْدًا لِتَعْلِيمِ الْبَاعِثِ عَلَى الدُّعَاءِ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا كَيْفِيَّتَهُ، وَهَذَا الْبَاعِثُ تَنْطَوِي تَحْتَهُ أَغْرَاضُ الدُّعَاءِ وَأَنْوَاعُهُ، فَلَا إِشْكَالَ فِي عَطْفِ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ عَلَى مِثْلِهِ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلَّقَاتِهِمَا.
وَالْخَوْفُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢٢٩] .
وَالطَّمَعُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٥] .
وَانْتِصَابُ خَوْفاً وَطَمَعاً هُنَا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ أَنَّ الدُّعَاءَ يَكُونُ لِأَجْلِ خَوْفٍ مِنْهُ وَطَمَعٍ فِيهِ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ لِدَلَالَةِ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي ادْعُوهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute