وَلَا لِرَجُلٍ دُونَ رَجُلٍ، فَإِنَّ النَّاسَ سَوَاءٌ، وَالذِّكْرَ سَوَاءٌ فِي قَبُولِهِ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَرَدِّهِ لِمَنْ حُرِمَ التَّوْفِيقَ، أَي هَذَا الحَدِيث الَّذِي عَظَّمْتُمُوهُ وَضَجَجْتُمْ لَهُ مَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ.
وَوَصْفُ رَجُلٍ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ، أَيْ مِنْ جِنْسِهِمُ الْبَشَرِيِّ فَضْحٌ لِشُبْهَتِهِمْ، وَمَعَ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ فَضْحِ شُبْهَتِهِمْ فِيهِ أَيْضًا رَدٌّ لَهَا بِأَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ يَكُونَ مَا جَعَلُوهُ مُوجِبَ اسْتِبْعَادٍ وَاسْتِحَالَةٍ هُوَ مُوجِبُ الْقَبُولِ وَالْإِيمَانِ، إِذِ الشَّأْنُ أَنْ يَنْظُرُوا فِي الذِّكْرِ الَّذِي جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَنْ لَا يُسْرِعُوا إِلَى تَكْذِيبِ الْجَائِي بِهِ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ كَوْنَ الْمُذَكِّرِ رَجُلًا مِنْهُمْ أَقْرَبُ إِلَى التَّعَقُّلِ مِنْ كَوْنِ مُذَكِّرِهِمْ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ مَلَكٍ أَوْ جِنِّيٍّ، فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فِي إِبْطَالِ دَعْوَى الْخَصْمِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِصِدْقِ دَعْوَى الْمُجَادِلِ، وَهُوَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ سَنَدِ الْمَنْعِ فِي عِلْمِ الْجَدَلِ.
وَمَعْنَى (عَلَى) مِنْ قَوْلِهِ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ يُشْعِرُ بِأَنَّ جاءَكُمْ ضُمِّنَ مَعْنَى نَزَلَ:
أَيْ نَزَلَ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ، وَهَذَا مُخْتَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنْ (عَلَى) بِمَعْنَى مَعَ.
وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: لِيُنْذِرَكُمْ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ هُوَ ظَرْفُ لَغْوٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: جاءَكُمْ وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي تَشْوِيهِ خَطَئِهِمْ إِذْ جَعَلُوا ذَلِكَ ضَلَالًا مُبِينًا، وَإِنَّمَا هُوَ هَدْيٌ وَاضِحٌ لِفَائِدَتِكُمْ بِتَحْذِيرِكُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَإِرْشَادِكُمْ إِلَى تَقْوَى اللَّهِ، وَتَقْرِيبِكُمْ مَنْ رَحْمَتِهِ.
وَقَدْ رُتِّبَتِ الْجُمَلُ عَلَى تَرْتِيبِ حُصُولِ مَضْمُونِهَا فِي الْوُجُودِ، فَإِنَّ الْإِنْذَارَ مُقَدَّمٌ لِأَنَّهُ حَمْلٌ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ أَوِ الْوَثَنِيَّةِ، ثُمَّ يَحْصُلُ بَعْدَهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فَتُرْجَى مِنْهُ الرَّحْمَةُ.
وَالْإِنْذَارُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٩] .
وَالتَّقْوَى تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute