للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لَفْظُ (مَكَانَ) الْمُسْتَعْمَلُ ظَرْفًا مجَازًا عَن الْخَلِيفَة، يُقَالُ خُذْ هَذَا مَكَانَ ذَلِكَ، أَيْ: خُذْهُ خَلَفًا عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَلَفَ يَحُلُّ فِي مَكَانِ الْمَخْلُوفِ عَنْهُ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

وَبُدِلْتُ قُرْحًا دَامِيًا بَعْدَ نِعْمَةٍ فَجَعَلَ (بَعْدَ) عِوَضًا عَنْ بَاءِ الْبَدَلِيَّةِ.

فَقَوْلُهُ: مَكانَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مَجَازًا، أَيْ: بَدَّلْنَاهُمْ حَسَنَةً فِي مَكَانِ السَّيِّئَةِ، وَالْحَسَنَةُ اسْمٌ اعْتُبِرَ مُؤَنَّثًا لِتَأْوِيلِهِ بِالْحَالَةِ وَالْحَادِثَةِ وَكَذَلِكَ السَّيِّئَةُ فَهُمَا فِي الْأَصْلِ صِفَتَانِ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، ثُمَّ كَثُرَ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ لِقِلَّةِ جَدْوَى ذِكْرِهِ فَصَارَتِ الصِّفَتَانِ كَالِاسْمَيْنِ، وَلِذَلِكَ عُبِّرَ عَنِ الْحَسَنَةِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِمَا يُتَلَمَّحُ مِنْهُ مَعْنَى وَصْفِيَّتِهَا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت: ٣٤] أَيِ: ادْفَعِ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ، فَلَمَّا جَاءَ بِطَرِيقَةِ الْمَوْصُولِيَّةِ وَالصِّلَةِ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ تُلُمِّحَ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ فِيهِمَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [فصلت: ٣٤] . وَمِثْلُهُمَا فِي هَذَا الْمُصِيبَةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٥٠] : إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ

مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ

أَيْ: بَدَّلْنَاهُمْ حَالَةً حَسَنَةً بحالتهم السيّئة بِحَالَتِهِمُ السَّيِّئَةِ وَهِيَ حَالَةُ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ.

فَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ أُعْطُوا حَالَةً حَسَنَةً بَطِيئَةَ النَّفْعِ لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَ الْبَرَكَةِ.

وحَتَّى غَايَةٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ بَدَّلْنا مِنَ اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ وَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا لَا مَحَلَّ لَهَا.

وعَفَوْا كَثُرُوا. يُقَالُ: عَفَا النَّبَاتُ، إِذَا كَثُرَ وَنَمَا، وَعَطَفَ وَقالُوا عَلَى عَفَوْا فَهُوَ مِنْ بَقِيَّةِ الْغَايَةِ.

وَالسَّرَّاءُ: النِّعْمَةُ وَرَخَاءُ الْعَيْشِ، وَهِيَ ضِدُّ الضَّرَّاءِ.

وَالْمَعْنَى أَنَّا نَأْخُذُهُمْ بِمَا يُغَيِّرُ حَالَهُمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مِنْ رَخَاءٍ وَصِحَّةٍ عَسَى أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ سَلْبَ النِّعْمَةِ عَنْهُمْ أَمَارَةٌ عَلَى غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ جَرَّاءِ تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُمْ فَلَا يَهْتَدُونَ، ثُمَّ نَرُدُّهُمْ إِلَى حَالَتِهِمُ الْأُولَى إِمْهَالًا لَهُمْ وَاسْتِدْرَاجًا فَيَزْدَادُونَ ضَلَالًا، فَإِذَا رَأَوْا ذَلِكَ تَعَلَّلُوا لِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبُؤْسِ وَالضُّرِّ بِأَنَّ ذَلِكَ التَّغْيِيرَ إِنَّمَا هُوَ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ