التَّذْكِيرِ بِأَنَّ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ يُمَاثِلُ هَيْئَةَ مَكْرِ الْمَاكِرِ بِالْمَمْكُورِ فَلَا يَحْسَبُوا الْإِمْهَالَ إِعْرَاضًا
عَنْهُمْ، وَلْيَحْذَرُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَفِعْلِ الْمَاكِرِ بِعَدُوِّهِ.
وَالْمَكْرُ حَقِيقَتُهً: فِعْلٌ يُقْصَدُ بِهِ ضُرُّ أَحَدٍ فِي هَيْئَةٍ تَخْفَى أَوْ هَيْئَةٍ يَحْسَبُهَا مَنْفَعَةً. وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلْإِمْهَالِ وَالْإِنْعَامِ فِي حَالِ الإنعام فِي حَال الْإِمْهَالِ، فَهِيَ تَمْثِيلِيَّةٌ، شَبَّهَ حَالَ الْأَنْعَامِ مَعَ الْإِمْهَالِ وَتَعْقِيبَهُ بِالِانْتِقَامِ بِحَالِ الْمَكْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٤] عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ.
وَقَوْلُهُ: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ مُتَرَتِّبٌ وَمُتَفَرِّعٌ عَنِ التَّعْجِيبِ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَفْرِيعُ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى الْمَذْكُورِينَ خَاسِرُونَ لِثُبُوتِ أَنَّهُمْ أَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَهُمْ قَوْمٌ خَاسِرُونَ.
وَإِنَّمَا صِيغَ هَذَا التَّفْرِيعُ بِصِيغَةٍ تَعُمُّ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ وَغَيْرَهُمْ لِيَجْرِيَ مَجْرَى الْمَثَلِ وَيَصِيرَ تَذْيِيلًا لِلْكَلَامِ، وَيَدْخُلَ فِيهِ الْمُعَرَّضَ بِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْحَاضِرُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهُمْ قَوْمٌ خَاسِرُونَ، إِذْ لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ.
وَالْخُسْرَانُ- هُنَا- هُوَ إِضَاعَةُ مَا فِيهِ نَفْعُهُمْ بِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ، شَبَّهَ ذَلِكَ بِالْخُسْرَانِ وَهُوَ إِضَاعَةُ التَّاجِرِ رَأْسَ مَالِهِ بِسُوءِ تَصَرُّفِهِ، لِأَنَّهُمْ بِاطْمِئْنَانِهِمْ إِلَى السَّلَامَةِ الْحَاضِرَةِ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّفَكُّرِ فِيمَا يَعْقُبُهَا مِنَ الْأَخْذِ الشَّبِيهِ بِفِعْلِ الْمَاكِرِ قَدْ خَسِرُوا الِانْتِفَاعَ بِعُقُولِهِمْ وَخَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢] ، وَقَوْلُهُ:
فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ [٩] .
وَتَقَدَّمَ أَنَّ إِطْلَاقَ الْمَكْرِ عَلَى أَخْذِ اللَّهِ مُسْتَحِقِّي الْعِقَابِ بَعْدَ إِمْهَالِهِمْ: أَنَّ ذَلِكَ تَمْثِيلٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٤] .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَمْنِ مَكْرِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْأَمْنُ الَّذِي مِنْ نَوْعِ أَمْنِ أَهْلِ الْقُرَى الْمُكَذِّبِينَ، الَّذِي ابْتُدِئَ الْحَدِيثُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الْأَعْرَاف: ٩٤] ثُمَّ قَوْلِهِ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً الْآيَاتِ، وَهُوَ الْأَمْنُ النَّاشِئُ عَنْ تَكْذِيبِ خبر الرَّسُول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَنِ الْغُرُورِ بِأَنَّ دِينَ الشِّرْكِ هُوَ الْحَقُّ فَهُوَ أَمْنٌ