للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَوْلُهُ فَوَقَعَ الْحَقُّ تَفْرِيعٌ عَلَى تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ. وَالْوُقُوعُ حَقِيقَتُهُ سُقُوطُ الشَّيْءِ مِنْ أَعْلَى إِلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهُ: وَقَعَ الطَّائِرُ، إِذَا نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ، وَاسْتُعِيرَ الْوُقُوعُ لِظُهُورِ أَمْرٍ رَفِيعِ الْقَدْرِ، لِأَنَّ ظُهُورَهُ كَانَ بِتَأْيِيدٍ إِلَهِيٍّ فَشُبِّهَ بِشَيْءٍ نَزَلَ مِنْ عُلُوٍّ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْوُقُوعُ عَلَى الْحُصُولِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْحَاصِلَ يُشْبِهُ النَّازِلَ عَلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ شَائِعَةٌ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: ٦] أَيْ: حَاصِلٌ وَكَائِنٌ، وَالْمَعْنَى فَظَهَرَ الْحَقُّ وَحَصَلَ.

وَلَعَلَّ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ (وَقَعَ) ، هُنَا دُونَ (نَزَلَ) مُرَاعَاةً لِفِعْلِ الْإِلْقَاءِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُلْقَى يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ فَكَانَ وُقُوعُ الْعَصَا عَلَى الْأَرْضِ وَظُهُورُ الْحَقِّ مُقْتَرِنَيْنِ.

والْحَقُّ: هُوَ الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمُوَافِقُ لِلْبُرْهَانِ، وَضِدُّهُ الْبَاطِلُ، وَالْحَقُّ هُنَا أُرِيدَ بِهِ صِدْقُ مُوسَى وَصِحَّةُ مُعْجِزَتِهِ وَكَوْنُ مَا فَعَلَتْهُ الْعَصَا هُوَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَثَرِ قُدْرَتِهِ.

وبَطَلَ: حَقِيقَتُهُ اضْمَحَلَّ. وَالْمُرَادُ: اضْمِحْلَالُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَانْتِفَاءُ أَثَرٍ مَزْعُومٍ لِشَيْءٍ يُقَالُ: بَطَلَ سَعْيُهُ، أَيْ: لَمْ يَأْتِ بِفَائِدَةٍ، وَيُقَالُ: بَطَلَ عَمَلُهُ، أَيْ: ذَهَبَ ضَيَاعًا وَخَسِرَ بِلَا أَجْرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ [الْأَنْفَال: ٨] أَيْ: يُزِيلُ مَفْعُولَهُ وَمَا قَصَدُوهُ مِنْهُ، فَالْبَاطِلُ هُوَ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، أَوْ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ ضِدُّ الْحَقِّ بَاطِلًا لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْأَثَرُ الْمَرْجُوُّ، وَهُوَ الْقَبُولُ لَدَى الْعُقُولِ الْمُسْتَقِيمَةِ. وَشَاعَ هَذَا الْإِطْلَاقُ حَتَّى صَارَ الْبَاطِلُ كَالِاسْمِ الْجَامِدِ، مَدْلُولُهُ هُوَ ضِدُّ الْحَقِّ، وَيُطْلَقُ الْبَاطِلُ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ بَطَلَ، فَيُسَاوِي الْمَصْدَرَ فِي اللَّفْظِ، وَيَتَعَيَّنُ الْمُرَادُ مِنْهُمَا بِالْقَرِينَةِ، فَصَوْغُ فِعْلِ بَطَلَ يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْبُطْلَانُ، وَقَدْ يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ الِاسْمِ وَهُوَ الْبَاطِلُ. فَمَعْنَى بَطَلَ حِينَئِذٍ وُصِفَ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ مِثْلُ فَهِدٍ وَأَسَدٍ، وَيَصِحُّ تَفْسِيرُهُ هُنَا بِالْمَعْنَيَيْنِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَانْتَفَتْ حِينَئِذٍ آثَارُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى: وَاتَّصَفَ مَا يَعْمَلُونَ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِعْلِ مَعْنَى الظُّهُورِ لَا الْحُدُوثِ، لِأَنَّ كَوْنَ مَا يَعْمَلُونَهُ بَاطِلًا وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُلْقِيَ مُوسَى عَصَاهُ، وَلَكِنْ عِنْدَ إِلْقَاءِ الْعَصَا ظَهَرَ كَوْنُهُ بَاطِلًا، وَيُبْعِدُ هَذَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ صِيغَةِ الْفِعْلِ فِي مَعْنَى

ظُهُورِ حَدَثِهِ لَا فِي مَعْنَى وُجُودِهِ وَحُدُوثِهِ، خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ بِلَا دَاعٍ.