للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَكَانَ أَعْظَمَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ هُوَ الَّذِي يَنْتَسِبُ فِرْعَوْنُ إِلَى بُنُوَّتِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ مَعْدُودًا ابْنَ الْآلِهَةِ وَقَدْ حَلَّتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةُ عَلَى نَحْوِ عَقِيدَةِ الْحُلُولِ، فَفِرْعَوْنُ هُوَ الْمُنَفِّذُ لِلدِّينِ، وَكَانَ يُعَدُّ إِلَهَ مِصْرَ، وَكَانَت طَاعَته طَاعَتُهُ لِلْآلِهَةِ كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: ٢٤] مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَص: ٣٨] . وَتَوَعَّدَ فِرْعَوْنُ مُوسَى وَقَوْمَهُ بِالِاسْتِئْصَالِ بِقَتْلِ الْأَبْنَاءِ وَالْمُرَادُ الرِّجَالُ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِالنِّسَاءِ، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى وَقَوْمِهِ، فَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى (مِنِ) التَّبْعِيضِيَّةِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: سَنُقَتِّلُ- بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَضَمِّ التَّاءِ- وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْقَتْلِ مُبَالَغَةَ كَثْرَةٍ وَاسْتِيعَابٍ.

وَالِاسْتِحْيَاءُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْإِحْيَاءِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَإِخْبَارُهُ مَلَأَهُ بِاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ تَتْمِيمٌ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إِجَابَةِ مُقْتَرَحِ مَلَئِهِ، لِأَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُبْقِيَ مُوسَى وَقَوْمَهُ فَأَجَابَهُمْ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَالْغَرَضُ مِنَ اسْتِبْقَاءِ النِّسَاءِ أَنْ يَتَّخِذُوهُنَّ سِرَارِيَ وَخَدَمًا.

وَجُمْلَةُ: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ اعْتِذَارٌ مِنْ فِرْعَوْنَ لِلْمَلَإِ مِنْ قَوْمِهِ عَنْ إِبْطَائِهِ بِاسْتِئْصَالِ مُوسَى وَقَوْمِهِ، أَيْ: هُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُفْسِدُوا فِي الْبِلَادِ وَلَا أَنْ يَخْرُجُوا عَنْ طَاعَتِي وَالْقَاهِرُ: الْغَالِبُ بِإِذْلَالٍ.

وفَوْقَهُمْ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي التَّمَكُّنِ مِنَ الشَّيْءِ وَكَلِمَةُ فَوْقَهُمْ مُسْتَعَارَةٌ

لِاسْتِطَاعَةِ قَهْرِهِمْ لِأَنَّ الِاعْتِلَاءَ عَلَى الشَّيْءِ أَقْوَى أَحْوَالِ التَّمَكُّنِ مِنْ قَهْرِهِ، فَهِيَ تَمْثِيلِيَّةٌ.

وَجُمْلَةُ: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ وَاقِعَةٌ جَوَابًا لِقَوْلِ قَوْمِهِ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [الْأَعْرَاف: ١٢٥] إِلَى آخِرِهَا الَّذِي أَجَابُوا بِهِ عَنْ وَعِيدِ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ مُوسَى مَعْدُودًا فِي الْمُحَاوَرَةِ، وَلِذَلِكَ نَزَلَ كَلَامُهُ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ قَوْمَهُ مَنْزِلَةَ جَوَابٍ مِنْهُ لِفِرْعَوْنَ، لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ التَّصْرِيحِ بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِالْوَعِيدِ، وَبِدَفْعِ ذَلِكَ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ.

وَالتَّوَكُّلُ هُوَ جِمَاعُ قَوْلِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا وَقَدْ عُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِلَفْظِ التَّوَكُّلِ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ مُوسى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٨٤] ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ أَنَّهُ طَلَبُ نَصْرِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يُرْغَبُ حُصُولُهُ، وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الِاسْتِعَانَةِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الصَّبْرَ عَلَى الضُّرِّ لِاعْتِقَادِ أَنَّهُ زَائِلٌ بِإِذْنِ اللَّهِ.